من جلب الاستعمار لمنطقتنا؟
د. رشيد عبّاس
قال احد المستشرقين الالمان «رودلف» في احد مناظراته الفكرية التي اشترك فيها علم 1960م: (مخلفات ثقافية لكل من الخِلافة الاموية والخِلافة العباسية والخِلافة العثمانية هي التي جلبت الاستعمار لمنطقتنا العربية) ..انتهى الاقتباس, هذه العبارة تستحق منا جميعا الوقوف مطولا عند حدودها الاربع, وتدفعنا ايضا لأن نغوص في أعماق كل من الخِلافة الاموية والخِلافة العباسية والخِلافة العثمانية كل على حِدَةٍ,.. حاولت هنا مرارا وتكرارا ان اتفحص حيثيات هذه العبارة يوما بعد الاخر حتى وصلت الى شيء من القناعات المبنية على بعض الحقائق الواقعية والتي حاول البعض دفنها فترة طويلة من الزمن, الى ان حان لهذه الحقائق ان تنهض من جديد وتأخذ مكانها, وكغيري امسكتُ ببعض أوراق هذه الحقائق الخجولة لأعيد قراءة المشهد من جديد دون تحريف او تغيير, وبكل امانة وصدق.
في الماضي القريب عشنا كأمة عربية بين استعمارين كاسرين رئيسيين, الاول استعمار انجليزي خبيث اورثنا جميع اشكال الذل والهوان, والثاني استعمار فرنسي مقيت اورثنا جميع اشكال الانحلال والفجور, واليوم نعيش استعمار امريكي بكل ابعاده وما زال هذا الاستعمار يورثنا كل اصناف الفقر والجوع, وقد يتساءل البعض وله الحق في ذلك: من الذي استدعى وجلب الاستعمار لمنطقتنا العربية؟ بمعنى آخر كيف وصل المستعمِر بكسر الميم لبلادنا العربية, ومن الذي مهد له الطريق؟ ما قاله المستشرق الالماني (مخلفات ثقافية لكل من الخِلافة الاموية والخِلافة العباسية والخِلافة العثمانية هي التي استدعت وجلبت الاستعمار لمنطقتنا العربية) يحتاج الى ربط بين قائمتين من الدول, القائمة الاولى دول الخِلافة, والقائمة الثانية دول الاستعمار.
الكل يعرف ان دول الخِلافة تتمثل في الدولة الاموية والدولة العباسية والدولة العثمانية, ولكل دولة من هذه الدول مخلفات غير مأسوف عليها ينبغي وضعها في سلة المهملات خارج التاريخ, فالمتتبع لتاريخ الشعوب والامم سيجد ان كثير من الدراسات تشير الى ان خلفات الخِلافة الاموية كانت تتمحور حول ثقافة المرأة, وان خلفات الخِلافة العباسية كانت تتمحور حول ثقافة الخنوع, في حين ان مخلفات الخِلافة العثمانية كانت تتمحور حول ثقافة المال, وهذا يعني ان منطقتنا العربية في فترة من الفترات عاشت على ثلاثة مخلفات ثقافية تمثلت بثقافة المرأة وثقافة الخنوع وثقافة المال, وكانت ثقافة الخنوع هي الاخطر والاسوأ.
في المقابل كان هناك ما يسمى بعقد «فرويد»ية وحاجات سيكولوجية لدول الاستعمار, ومع تحليل عقد «فرويد» وأسقاطها على هذه الدول سيجد ان عقدة الانجليز تتمثل بحب السيطرة من خلال اذلال الشعوب العربية وجعلها خانعة, وان عقدة الفرنسيين تتمثل بشهوة الجنس من خلال بث ثقافة الانحلال والفجور لدى المرأة العربية وجعلها متحررة من قيود المجتمع, في حين ان عقدة الامريكان تتمثل بالجيوب المليئة بالمال من خلال اخذ وسلب اموال الشعوب العربية وجعلها فقيرة جائعة.
بدأت قصتنا كأمة عربية مع الاستعمار مبكرا, فقد جاء الانجليز ولعبوا على وتر مخلفات الخِلافة العباسية التي كانت تتمحور حول ثقافة الخنوع, وصنعوا من ذلك استعمارا مبني على الذل والهوان, وجاء الفرنسيون ولعبوا على وتر مخلفات الخِلافة الاموية التي كانت تتمحور حول ثقافة المرأة, وصنعوا من ذلك استعمارا مبني على الانحلال والفجور, ثم جاء الامريكان ولعبوا على وتر مخلفات الخِلافة العثمانية التي كانت تتمحور حول ثقافة المال, وصنعوا من ذلك استعمارا مبني على الفقر والجوع, واصبحنا بالاستعمار الغاشم امة تسودها ثقافة الذل والفجور والفقر بكل ما تحمله هذه المعاني من ابعاد سيكولوجية.
لقد شبعت الامة العربية وارتوت ذل وهوان, وشبعت وارتوت فجور وانحلال خلقي, وشبعت وارتوت فقر وجوع, ونجح الانجليز والفرنسيين في ماضي الايام من زرع بذور الذل والانحلال الخلقي وحصدنا ما حصناه, ..واليوم نحن امام ثقافة فقدان المال والثروات العربية, ونعيش اليوم ابشع صور الفقر والجوع, وما زال الامريكان يحرثوا ارضنا بالصواريخ طويلة المدى, ويزرعوا في ارضنا قنابل الفقر والجوع, ونحن للأسف الشديد في سبات عميق, ولم يسمح لنا إِلَّا ان نحصد القتلى الجائعين, ونسّلم على هؤلاء ذات اليمين وذات اليسار.
علينا ان نعيد النظر بصدق وامانة في مخلفات الخِلافة الاموية والخِلافة العباسية والخِلافة العثمانية, وان نأسس ثقافة جديدة للرسالة المحمدية, والخِلافة الراشدة وننطلق منهما لمستقبل قادم, وخلاف ذلك سنبقى دوما رهائن للانحلال والفجور, ورهائن للذل والخنوع, ورهائن للفقر والجوع, والحال هكذا, من جلب الاستعمار لمنطقتنا العربية عليه لعنة الله, ..﴿وإلى الله ترجع الأمور﴾.