#مفاتيح #السعادة -4- معرفة #الموت
ماجد دودين
أنتقل إلى الحديث عن المعرفة الرابعة …عن اليقين الذي يشبه الشك وهو الموت …
الموت الذي سيطرق أبوابنا لا بل سيأتي بلا استئذان فقد أتينا إلى هذا العالم دون أن نُستشار وسنرحل من هذه الدنيا دون أن نَختار ومن رحمة الله بنا أن منحنا حرية الاختيار لنختار بين طريق الخير وطريق الشر … إنّ أعمارنا محدودة وأيامنا على الأرض معدودة … فأعمارنا بالقياس إلى المدى الهائل من الأزل إلى الأبد ومضة برقٍ أو غمضة عين …
يأتي الإنسان إلى الدنيا باكياً … يخرج من رحم غامض صغير إلى رحم الحياة الأكثر غموضاً … يشرع الزمن يستهلكه … يختلس ساعـــــــــــات حياته وأيامها والسنين… يكدّ الإنسان في الحياة… يتعب.. ويكابد.. ويكدح.. ويجد ويجتهد … وتتسع دوائر حياته كما تتسع دوائر الماء في بركة صافية ألقي فيها حجر صغير يمثّل الزمن وتعود الدوائر إلى السكون ونحن نعتقد أننا نسكن ونرتاح بالموت ولكن ما هو الموت؟ وهل هو النهاية التي ليس بعدها إلاّ جسد في حفرة صغيرة تعجّ بالديدان؟ وتنتهي الحياة بكدها وتعبها!
إنّ الموت هو البداية وليس النهاية … هو البداية الفعليّة لحياة حقيقية المصير فيها يتوقف على الأسلوب الذي عاش به الإنسان في رحلته القصيرة من محطة الولادة إلى محطة الموت …
ولحظة الموت ننتبه من غفوتنا ونصحوا من سكرتنا … ” وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد ” ق 19 .
“لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ” ق 22 .
آنذاك وهناك يبصر الإنسان وصدق الإمام علي رضي الله عنه إذ يقول: ” الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا ” …
الموت لحظة حرجة خطيرة … لحظة تقرير المصير … لحظة تنطفئ فيها آخر شمعة وآخر ثانية في حياة الإنسان! ولقد أوصانا رسولنا صلى الله عليه وسلم بالإكثار من ذكر هادم اللذات وهو الموت الذي ستذوقه كل نفس! وبذكره يَقِلّ الطمع والشره على جمع حطام الدنيا …
وبذكره تُؤدى الحقوق إلى مستحقيها …
وبذكره يكثر الإنسان من الصالحات ويقصر الأمل فيستزيد العبد من دنياه لآخرته ويحرص على رصيد التقوى.
كان أحد الأعراب يسير على جملٍ له هادئاً مطمئناً وفجأة خارت قوائم الجمل وخرّ ميّتاً … فنزل الأعرابي عنه وجعل يدور حوله ويتفكر فيه ويخاطبه ” مالك لا تقوم! مالك لا تنبعث؟! أعضاؤك كاملة وجوارحك سالمة … ما شأنك؟! ما الذي كان يحملك …
ما الذي منعك عن الحركة شغلك؟! “
ثم تركه وانصرف عنه متفكراً متعجباً مذهولاً!!
ببساطة …إنه الموت …
السر العجيب واللغز المحيِّر الغريب …
الواعظ الصامت …الكأس الذي يذوقه كل الناس …
طارق يأتي بلا استئذان … يزورنا في أي لحظة وآن …
يدركنا في كل مكان … ولو كنا في بروج مشيدة …
ليس له نفس معلومة أو مرضٌ معلوم أو زمن معلوم …
إنه حق …إنه أقرب للإنسان من شراك نعله …
إنه اليقين الذي يشبه الشك إلى حدٍ بعيد …
إنه اللحظة التي يُكشف فيها الغطاء ويصبح بصر الإنسان عندها حديد …
إنه أول منزل من منازل الآخرة …
“فهنّ المنايا أيَّ وادٍ حللنهُ عليها القُدوم أو عليك ستقدم”
“كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلةٍ حدباء محمول”
إذن … علينا أن نعلم أن الموت موعدنا … والقبر بيتنا … والثرى فراشنا والحشرات أنيسنا والقيامة موعدنا … والجنة أو النار موردنا …
فإذا ما علمنا هذا وتيقنّاه تزودنا وعملنا بنصيحة حبيبنا صلى الله عليه وسلم لأبي ذرٍ ” يا أبا ذر، جدد السفينة فإنّ البحر عميق، وأكْثر من الزاد فإنّ السفر طويل، وخفّف الحِمْل فإن العقبة كؤود، وأخلِص العمل فإن الناقد بصير “.
وعن أنس رضي الله عنه قال:
“خطّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً، وقال: هذا الإنسان ، وخط إلى جنبه خطاً وقال: هذا أجله ، وخطّ آخر بعيداً عنه فقال: هذا الأمل… فبينما هو كذلك إذ جاءه الأقرب “رواه البخاري أجل… جاءه الأقرب أي وافاه الأجل.
الإسلام يريد من الإنسان أن يكون طموحاً ولا يريد منه أن يكون طماعاً والفرق شاسع بين الطموح والطمع …
الإسلام يريد من المسلم أن يغلّف حياته بمعاني الحق والخير والجمال ولا يريد منه أن يغلفها بالباطل أو الشر أو الطغيان …
الإسلام يريد من المسلم أن يكون تقيّاً … يخاف من الجليل ويعمل بالتنزيل ويرضى بالقليل ويستعد ليوم الرحيل … عندها يكون الموت لحظة فرح وسعادة وراحة فيقول المؤمن ما قاله بلال لحظة الوفاة حين قالت زوجته وهو يعالج سكرات الموت ” واحزناه، وامصيبتاه ” فقال لها: ” بــــل قولي واطرباه وافرحتاه، غداً نلقى الأحبة محمــــــــــــداً وحزبه “.
“ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسُنَ أولئك رفيقاً ” النساء 69 .
وبعد الموت وهو المرحلة الفاصلة ونقطة البدء في اليوم الآخر حيث يُنزل الإنسان إلى تلك الحفرة الضيقة ويُهال عليه التراب ويرجع عنه الأهل والخلان والأصدقاء والمال … بعد ذلك تبدأ حياة جديدة لا عمل فيها ولكن امتحان وفتنة ومن ثم إما نعيم وإما عذاب فيقعده الملكان ” منكر ونكير ” ويسألانه عن ربه ودينه ونبيّه فإن كان من المؤمنين ثبته الله وألهمه الجواب الصحيح حيث يحصّل ما في الصدور لا ما على الألسنة … وإن كان كافراً لم يقدر على الجواب ولو كان يعرف ذلك في الدنيا فالمؤمن يسعد في قبره ويرى مقعده من الجنة ويُفسح له في قبره مدّ بصره ويكون له روضة من رياض الجنة، وأما الكافر فيرى مقعده من النار ويضيق عليه القبر حتى تختلف أضلاعه ويكون قبره حفرة من حفر النار…