مشهد من مسرح ” اللامعقول” في بعض الجامعات

مشهد من #مسرح#اللامعقول” في بعض #الجامعات

د.حفظي اشتية
هذه حكاية خيالية من زمن قديم, ما رواها بيدبا لدبشليم، ولم تحصل في #جامعة #عربية؛ لأن حكمة العرب لا يمكن أن تتقبلها وترضى أن تقع أحداثها في ديارها.
يقول المدرس:
يقدّم المدرسون في إحدى الجامعات طلبات ترقيتهم إلى جامعتهم، فينظر فيها أولا ” كبير الحكماء!” نظرات عجلى، فليتقط طلبات المقرّبين، أو المتوسّطين، أو المنذورين لخدمته ورحلاته وطلباته ….، فيمرّرها على خط سريع لتُرسل إلى التحكيم مع التوصيات بالعجلة والرأفة.
وينظر في الطلبات الأخرى نظرات نقدية فاحصة (شخصية)، فإذا وجد بينها طلباً لا يروق له صاحبه؛ لأنه لا يتمرّغ على أبواب مكتبه، ولا يتسوّل ولا يتوسّل، أو لا يتقن النميمة وتسقّط الأخبار، أو لا يتوسّط له عنده مَن يُستفاد منه، أو يتذكر أن صاحب الطلب نظر إليه نظرةً شزراء ذات يوم، أو تجاهله ولم يسلم عليه في مناسبة ما، أو شكا من ظلمه ……………. ، يصطاد هذا الطلب، ليحظى بالمزيد من التفحيص والتمحيص، ويأخذ ضميره اليقظ القرار بأنه آن أوان الحساب.
يُحال الطلب إلى لجنة عظيمة في ظاهرها الرحمة ومن قِبَلها العذاب، وظيفتها النظر في مجلات العالم كلها لتحكم أيها تنعُم برضاها فتجيزها، وأيها تمنع عنها الشرعية وتردّ بضاعتها مزجاة إلى أهلها .وتعجب وأنت تتساءل : ما الإمكانات الإعجازية التي تتحلى بها هذه اللجنة للقيام بهذه المهمة الهائلة، وإصدار قرار يؤثر في الحكم على جهود المدرّس على مدى سنوات عديدة، وترقيته، وسمعته الأكاديمية ؟! لجنة من تخصصين اثنين أو ثلاثة على الأكثر، كيف لها أن تُحيط خُبراً بمئات التخصصات وآلاف المجلات لتصدر قرار النجاح أو الرسوب ؟؟!!
يقول المدرّس: هذا ما حصل معي ، تقدّمت بطلبي مستوفياً الشروط العاديّة والتعجيزية، مُدقَّقا من القسم والكلية، وانتظرت شهوراً وشهوراً وأنا متعمم بالأدب، لا أزعج أحداً حتى بمجرد السؤال عن مسار الطلب، إلى أن كُرّمت بقرار عدم السير في إجراءات ترقيتي لعدم اكتمال الشروط، وتُركتْ ليَ الحريّة في التمتع بالحيرة العامّة الطامّة، وأن أضرب بالمندل، وأستعين بصاحبات الودع، لمعرفة ما هي الشروط غير المكتملة . ورحت أسأل وأتلطف بالسؤال حتى علمت أن اللجنة العظيمة رفضت اعتماد أحد أبحاثي دون توضيح السبب، وقِيل لي: أثبتْ أن المجلة تتوافق مع شروط الجامعة، وسنعتذر إليك ونصوّب القرار، فاثبتّ بالأدلّة والوثائق التي تخطر أو لا تخطر على البال، أن المجلة تنطبق عليها شروط وتعليمات الجامعة منذ تأسيسها إلى الآن، فهي مجلة محكّمة متخصصة، تصدر من جامعة عريقة منذ أكثر من ثلاثين سنة، تعترف بها وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، أعدادها منشورة متسلسلة على الشبكة منذ العدد الأول إلى الآن، وهيئة تحريرها عالمية، والباحثون من دول عديدة مرموقة ………….. ، وكذلك فإن بحثي المنشور فيها اعتمدته الجامعة لإجازة تفرغي العلمي، واعتمدته أيضاً لنقلي من فئة إلى أخرى في رتبتي الحالية!!!!
لكن يبدو أن قرار اللجنة العظيمة الفاصل العادل الشامل الكامل لا يقبل استئنافاً ولا نقضاً ولا تمييزاً، فقد سبق السيف العذل، وقُضي الأمر الذي لا رجعة فيه، ولا تراجع عنه .
يخاطب المدرس نفسه: كنتُ متفوقاً في جميع مراحل دراستي، الأول على دفعتي، سابقاً دوماً ما صلّيت يوماً ( المصلّي هو الذي يأتي بعد السابق الأول )، وأكتب أبحاثي في صميم تخصصي، ومسوّداتها ما زالت عندي، ما تطفلت على أحدٍ ليضيف اسمي، ولا خنت أمانة البحث العلمي وشرف سمعتي ………………….
فيا أيتها اللجنة، هل يُعقل أن تمسح نظرتك العاجلة كل هذا الماضي، ويكون حكمها أصدق وأعدل وأدق من كل مَن سبق ؟!!
بحثي في مسألة بلاغية دقيقة، فما علاقة تخصص الزراعة (مثلاً) بالحكم عليه ؟ تخصص الزراعة مهم جداً وضروري في حياتنا، وهو مفيد للنظر في أبحاث ضمن مجاله، لكن, ما شأنه في مثل بحثي ليوافق عليه أو يرفضه ؟ أنا ما كتبت في آفات العنب، ولا في الحشرات الضارّة، ولا في ثمار التين الملائمة لصناعة القطّين. ومن التعجيز أن يُطلب من تخصص الزراعة تقييم الآراء البلاغية للجاحظ والعسكري والجرجاني وابن الأثير والسكاكي والقزويني …………. إلخ .
يقول المدرّس:
وحلمت ذات ليلة أنني حظيت بمقابلة مقرّر اللجنة، وهو باحثٌ مرموق في تخصصه، وأديب أريب يتذوق الأدب, وتسيل على لسانه فصاحة العرب، ويتّسم بأخلاق رفيعة، وإنسانية راقية، فسألته بلهفة: لمَ لمْ تعتمدوا بحثي؟ ولمَ سببّتم لي كل هذا الخلاف مع الجامعة، وما ترتّب وسيترتّب عليه من عقوبات ظالمة واتهامات ملفّقة وأذى وأضرار وأخطار ؟؟ قال: أنا قرأت بحثك، وهو بحث رصين جيّد، ولغتك باذخة، وقلمك سيّال، لكن التوجّه العام للجامعة هو عدم اعتماد المجلات التي تصدر في الدولة التي نشرث فيها بحثك . فأخذني العجَب وتساءلت في نفسي: مَن نحن حتى نعترف بمجلات هذه الدولة أو لا نعترف، ونحن عِيال عليها وعلى جامعاتها وعلى علمائها وعلى مؤلّفاتها، نقتات على فُتات علومها، كنّا وما نزال ؟؟!! ثم إذا كانت لدينا مشكلة مع مجلة ما، أو باحث ما، فلماذا لا نواجه المشكلة ذاتها دون مواربة، ونحاسب المخطئ نفسه بدلا من تعميم الأذى؟ علما بأن بعض المخطئين يحظون بالرعاية الوارفة, والترقيات الزائفة، والمناصب التي لا يستحقون عشر معشارها، وهم يرتعون و”يبرطعون” في حاشية كبير الحكماء !!!
وأيضا، لماذا لا يتم التعميم على المدرّسين بأسماء المجلات والدول والقارّات التي لا تعترف بها الجامعة؛ ليعرفَ كل مدرّس حدّه، ويقف عنده، ويوظّف جهده؟ وكيف يُحاسَب المدرّس بأثر رجعي على بحث منشور منذ سنين، واعتُمد مرة واثنتين ؟!! ومَن للمدرّس بمعرفة نوايا اللجنة وحكمها على المجلات، ومزاج النعمان بن المنذر في يوم الاجتماع؛ ليعرف إن كان من أصحاب النعيم, أو البؤس المقيم؟!!
وأخيرا، سدّد مقرّر اللجنة ما ظنّ أنه الضربة القاضية ليُنهيَ النقاش في القضية، فقال: البحث منشور في مجلة (آداب)، وليس في تخصص اللغة العربية فقط . فأدركت أن الأقلام قد رُفعت، والصحف قد جَفّت، وأن العنزة قد طارت !! واستشرفت الغيب وآتي الزمان لأجدَ أن كل مَن تمت ترقيتهم عبر عقود وعقود من السنين من أساطين علماء اللغة العربية بأبحاثهم المنشورة في مجلة (دراسات الجامعة الأردنية) مثلا، قد حصلوا في غفلة من الزمان، وغياب الرقيب الألمعيّ، على ما لا يستحقون، وأن ترقياتهم معيبة؛ لأن هذه المجلة موسوعة في العلوم الإنسانية والاجتماعية والعلوم التربوية وعلوم الشريعة والقانون …….. إلخ، وليست متخصصة فقط في اللغة العربية !!!
يعرض الكاتب الآسر “يوسف غيشان” تفاصيل فكرة مقالته، وعندما يُحاصره ” اللامعقول” ينهيها بقوله:( وتلولحي يا دالية )، ونحن في هذا المقام المشابه نحذو حذوه، ونكمل من (المعلّقة !!) ذاتها، فنقول: ( ازرع واقلع بيتنجان) !!!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى