مساء الخير يا أبي / أ.د.مصلح النجار

الندوة التكريميّة

#عبدالفتاح_النجار #مسيرة_عطاء

واختياره شخصيّة العام

لمهرجان إربد للشعر العربي (2025)

مقالات ذات صلة

8/9/2025

كلمة العائلة

أ.د.مصلح النجار

#مساء_الخير_يا_أبي،

ألا عم مساء أيها المقام العالي…

مندوب مَعالي وزير الثقافة المكرّم،

عطوفة الأخ الأستاذ الدكتور نضال العياصرة أمين عام الوزارة،

الصديق، ورفيق المجالس الكريمة،

أصحاب العطوفة، والسعادة،

يا شعراء الوطن ومثقفيه،

أهلي، وشقيقاتي، وأشقائي،

أصدقاءنا، وأصدقاءَ أبي،

أيها الأحبة،

مساء الخير يا إربد،

مساء الخير يا سحم الكفارات،

مساء الأمكنة الجميلة التي تعمر القلوب،

وأشكر وِزارة الثقافة، ومديرية ثقافة إربد على هذا اللفتة الكريمة، وهذا التكريم الذي وقع في القلوب موقع الطِّيب، وأُثمّن لمعالي الوزير رعايته، وأقدّر السبب القاهر الذي حال دون حضوره الكريم بيننا.

أيها الذوات الكرام،

أعرف كم يسرُّ أبي في عليائه هذا المساء، أن يكون هذا الجمع ملتئما لتكريمه في دوحةِ الشعر، وأنا أقف إلى جوار صديق عمرِ أبي، الأستاذ الدكتور العمّ نبيل حداد وهو القامة الأكاديمية والنقدية السامقة، ومعلّم الأجيال، وإلى جوار شريكنا في بنوّة أبي الشاعر والناقد الأستاذ نضال القاسم.

مساء الخير يا أبي

مساء الخير للذين كانَ يُعاش في أكنافهم،

مساء الخير لمن كنتُ عنده أجد الأجوبة…، فغادرني في بحرٍ من الأسئلة!

مساء الخير يا إربد،

إربد… لم تكن مسقط رأس أبي، ولكنها المكان الذي اطمأنّ فوضع رأسه فيه من أجل راحته الأبديّة، كانت إربد مهوى فؤاده، فأقام فيها، وعاشها، وعاشته منذ العام 1957، وحتى يومه الأخير، حيث شيّعه الإربديّون أحبّتُه، وأبناء وطننا الغالي من كلّ حدب وصوب، إلى مثواه الأخير الذي أحبّه، فتوسّد ترابَه الطهور. ومضى ذلك الشيخ الذي لم يغادر إربد في يوم من الأيام راغبا، فحتى حين ألجأه العمل إلى سكنى عمّان، لم يكن يجد طعما للأشياء إلا حين يعود إلى بيته الإربدي كل أسبوع مرة أو مرتين، ليسوق سيارته في شوارعها، من شارع بغداد إلى شارع فلسطين، ومن شارع الهاشميّ إلى شارع السينما، ومن شارع الثلاثين إلى شارع حكما، ومن شارع الجامعة إلى شارع فوعرا، ومكتب البريد الذي كان رقم صندوقه فيه 101، ورقم هاتف بيتنا 132. فمن كشك الزرعيني إلى مكتبة عطية، ومن رابطة الكتّاب خلف البريد إلى النادي العربي، ونادي الحسين، ونادي المخيم، ومن مجمع مدارس مخيم إربد إلى كلية حوارة وجامعةِ اليرموك!

تلك كانت إربدَه!، فليتنا نعود لنذرع طرقاتها معا!

اللهُ جارُك، إن دمعيَ جاري              يا موحشَ الدنيا من السُّمَّارِ

أهكذا تمضي يا أبي وتتركني؟

هل للفتى من بنات الدهر من واقِ؟             أم هل له من حِمام الموت من راقِ؟

لا والله،

لا أقول إلا ما يُرضي الله،

لَعمرُك، والمنايا غالباتٌ                 وما تُغني التميمات الحِماما

ليت تميمة حالت بينك وبين الموت…!

كم كنتَ عنيدا، ولكنّ الموت خصمٌ يَكبرُ أن يُصادا، وليس بوسعنا أن نطيق له عنادا، فأيَّ خيل أطاعنُ!

كنتَ تكرّر دائما: إنني لا أخاف الموت، وكان آخرَ ما قلته لنا: إني راضٍ من الله! أمّا أنا فكم أخاف الموت، وعشتُ عمري وأنا أخافه عليك!

يا أبي،

قيل إن جمال السلم أن الأبناء يدفنون آباهم في مشهد جليل! لقد كنت أقرأ هذه المقولة، وأقرنها بقصيدة ممدوح عدوان عن أبيه، وأبكي كلّما درّستها لطلبة الشعر الحديث في الجامعة الهاشميّة، خوفا من أن يأتي هذا اليوم!

لكلّ جديد لذّةٌ غير أنني                 رأيتُ جديد الموتِ غيرَ لذيذ

 فمنذ ثلاثين سنةً وأنا أحمل عبء يوم رحيلك!

وعبء الوقوف عند أعتاب بيتك الطاهر، لأنشد:

قف بالمنازل إن شجتك ربوعُها          فلعل عينك يستهلّ دموعُها

ما بكاء الكبير بالأطلال!                وسؤالي فهل تَردُّ سؤالي

قذى بعيني، وقد خلت الديار من أهلها، وما حالُ رجلٍ بعمري يقبِّل ذا الجدارَ وذا الجدارا؟

لمن طللٌ بإربدَ لا يَريمُ؟ وهل بالطلول لسائلٍ ردُّ؟ ولا أحسب أنّ هذا الفؤاد سيصحو، فقد همّ سيّدُ الصحبِ بالرواح!

ذهب الذين أحبهم،                     

نعم، ذهب الذين أحبهم،                 وبقيتُ مثل السيف، فردًا،

بقيت وحدي، على الرغم من كَثرة الناس،

وقلتُ يا أفنان، لقد غلبَ العزاءُ! بادٍ هواكَ عرفتَ أم لم تعرفِ، فهل من مبلغٍ سرواتِ قومي بأن هذا السيد السريَّ قد مضى؟

ولولا كثرة الباكين حولي على آبائهم، لقتلت نفسي

نعم، كنتَ دائمًا تردّد لأشرف يا أبي:

جعلتُ لِعرّافِ اليمامةِ حُكمَه،                   وعراف نجد، إن هما شفياني

لم يُشفِياكَ أيها الكريم،

فما ألمّ بك وبنا لا شفاءَ منه،

رأيتُ بعيني فوقَ ما كنتُ أسمعُ          وقد راعني يومٌ من الموتِ أروَعُ!

وإني لأَخلو مُذ فقدتُك دائبًا،              فأنقُش تمثالًا لوجهك في التّرْبِ

نعم،

أنقش تمثالًا لوجهك…، وأَبكي… وأُبكي أخي إيادا، ومن حولي، وأخاطب عينيّ فأقول:

بكاؤكما يشفي وإن كان لا يُجدي،              فجودا، فقد أودى نظيرُكما عندي!

طَوَاهُ الردى عنّي، فأضحى مزارُه                بعيدًا على قربٍ، قريبًا على بُعدِ

فليتني أشدّ إليك نياط القلب، فقد عفت الديار، وعفا السهل، وعفت من بعدهما القلوب!

نعم، 

تتركنا مع أشيائك الخالدات،

تتركنا مع الذُّكرات تُلوي بنا،

تتركنا مع حواراتٍ ساخنة في الأدب والسياسة،

تتركنا مع أحاديثكَ عن الوطن والبلاد،

تتركنا مع كتبك الأثيرة وتخطيطاتك الملوّنة على كل صفحة قرأتها من آلاف الكتب!

وتترك مجلسك في غرفة الجلوس،

تتركنا مع مقعدك على المائدة،

تتركنا مع الورقِ الذي كنا نلعب به البناكل في ختام السهرة!

نعم، كما كنت تنشد مع أخي محمد:

لكلّ شيءٍ إذا ما تمّ نقصانُ!

نعم يا أبي،

تعيشُ أنتَ وتبقى،

وتعيش أشياؤك الكثيرات الأثيرات،

أنا الذي متُّ حقًا…

ولكننا موضِعون لأمرِ غيبٍ،

فما المرء إلا كالشهاب وضوئه           يحور رمادا، بعد إذ هو ساطع

وأنا أعرف أنّ كلَّ امرئ لُمحال الدهر مكذوبُ          وكلَّ من غالبَ الأيام مغلوبُ

فما المال والأهلون إلا ودائعٌ،            ولا بد يومًا أن تُرَدَّ الودائع

ذهبتَ إلى من يحبّك، وتحبُّ وجهه الكريم،

ذهبت إلى من هو أولى بك منّا،

ولكنك ذهبت سريعًا.

كنا ننتظر،

مزيدًا من الجلسات معك،

مزيدا من فيض نوْرك!

مزيدا من العزّ الذي نعيشه في حضرتك، كما كانت جنان تخاطب بلالا!

كنا ننتظر مزيدًا من ضحكاتك الرائعة،

أفْدي ابتسامتك الجميلةَ، ما كان أطيبَها!

كنا ننتظر مزيدًا من التماعاتِ عينيكَ…

الحزنُ يُقلقُ، والتجمُّلُ يَردعُ        والدمعُ بينهما عصيٌّ طَيّعُ

إني لأجبن من فِراق أحبّتي       وتُحسّ نفسي بالحِمام فأشجُعُ

يا أبي،

يفنى الكلام ولا يُحيط بوصفكم…  أيُحيطُ ما يَفنى بما لا ينفَدُ؟

نعم، يا أبي،

نعم، أيها الحبيب،

مضيتَ، وتركتنا سحرَ الغالية،

لم أكن أحب أن أُغمض عيني في حضورك،

حتى لا يحجبني جفناي عن رؤيتك،

ولو أني نظرتُ بكل عينٍ،        لم استَقصَت محاسنَك العيونُ

وما انسدّتِ الدنيا عليَّ لضيقها    ولكن طرفًا لا أراك به أعمى

وما أنا إلاّ على يقين من أننا

نمرّ سراعا بين عُدمين ما لنا            لُباثٌ كأنّا عابرون على جسر

أما القبور يا أبي، فإنها مأنوسةٌ بجوارِ قبرِك، والديارُ قبور.

يذكّرني بك كلّ شي، على الرغم من أنك لا تفارق بالي لحظةً،

وأستحضر زينَ وغيدَ والأحفاد، وكأني بهم يقولون:

ما مرّ ذكرك إلا وابتسمت له                   كأنك العيد والباقون أيام

أو حام طرفُك إلا طرْتُ أتبعُه                  أنت الحقيقةُ والباقون أوهام

فليتني أَخفِض طرفي ولا أُبصر به، حتى أراك، وقد كنتُ قبل فراقك جلْدا في الحياةِ مدرِّئا، وأنظر في هذا الفضاء، فأرى فجاجَ الأرضِ حلَقةَ خاتمٍ عليّ، فلا تزداد طولًا ولا عرضا

وتبكيني الذُّكرات، فتبكي عيني اليسرى فلمّا أزجرها     عن الجهل بعد الحلم تسبلان معا

أبدا تحنّ إليكم الأرواحُ            ووصالكم ريحانها والراحُ

وما من مستراح،

أترعي الكاسَ أدمعا ورحيقا        حقُّ بعض الهموم ألا نُفيقا

وكيف يفيق من يجد في صدره مثل همّي؟

في ذمة الله ما ألقى وما أجدُ             أهذه صخرةٌ أم هذه كبدُ

ألا موتٌ يباعُ فأشتريْه                   فهذا العيش ما لا طعم فيه

لعلّنا نلتقي!

وقد يجمع الله الشتيتين بعدما            يظنّان كلّ الظنّ ألا تلاقيا

الحمد لله الذي أنعم علينا، فتركك تزيّن عالمنا تسعا وثمانينَ سنة.

شكرا لوزارة الثقافة، التي نظّمت هذا التكريم، فليس مستغربا أن تقوم بواجبها تجاه مثقفي هذا الوطن، وتجاه رجل قضى قرابة ستين سنة لم يكتب إلا عن الشعر والنقد في الأردن الغالي، وخلّف عشرة كتب نقدية، ومئات المقالات، تتبّع فيها الشعر في الأردن منذ فؤاد الخطيب، ومحمد الشريقي، وعرار، ومحمد صبحي أبو غنيمة، ومحمد علي الحوماني إلى جيل الألفية الجديدة. كان يحبّ أن يتتبع هذا النهر المقدّس من شعرنا الجديد، ودُرّست كتبه في الجامعات الأردنية لعقود.

مالذي أنجزه غير ذلك إلّا أنه أحبَّكم؟ كان أبي فيضا عظيما من المحبّة.

كان أبي أنيقا، يحبّ القيافات، ويعشق كتبَه ومكتبته، ويعشق إهداءها إلى الأحبّة، وطلاب العلم.

ولذلك جئناكم اليوم بنسخ من كتُبه، وأُجزل الشكر إلى منشورات مجاز – ناشر أبي، الذي حصّل هذه النسخ لتكون هديّته إليكم هذا المساء!

إلى رحمات الله الواسعات، في ظلال العرش، بإذن الله،

في جوار الأنبياء والصديقين، وحسن أولئك جوارا.

اللهم ارحم أبي وارحم أمي، واجعلْهما في علّيّين،

وأمطر عليهما من شآبيبِ رحمتك، وتجاوز عن سيئاتهما، وزد في حسناتهما، وارحمهما،

فأنت أولى بهما. ورحم الله آباءكم أجمعين.

كلُّ شيْء على ما يُرام حبيبي، سوانا، فلسنا بخير بلا طلعتك البهية!

شكرا لكم.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى