#مرافعة_موضوعية أم #مقامة_إنشائية؟!
د. حفظي اشتية
تجيش فينا مشاعرنا ونحن نسترجع خمسة عشر شهرا خلتْ، خِلناها خمسة عشر دهرا من هول ما اجتاحنا من معاناة وألم وصبر وقلق وترقّب وخيبة وخذلان، وأمل ومجد وبطولة وشجاعة وتضحية وعنفوان….. نلتقط أنفاسنا، ونحكّم عقولنا, ونحدّق في كفتيْ الميزان، ونقول:
ــ كان الناس في غزة يعيشون حياتهم الطبيعية : بيوت آمنة تؤويهم، مدن عامرة تضمّهم، يمارسون أعمالهم، ويجنون أرزاقهم، ويربّون أبناءهم، يتنقلون بمركباتهم عبر شوارع معبدة نظيفة، يتعالجون في مستشفيات راقية، لهم مدارسهم الراعية للعلوم والمعرفة، وجامعاتهم العصرية الباذخة، ومزارعهم الغنية الغنّاء، وشواطئهم الساحرة، ومصانعهم الواعدة، ومساجدهم الشاهقة، يتقلبون في النعيم، أسواقهم عامرة، موائدهم زاخرة، ملابسهم زاهية…..إلخ فقادهم قادَتُهم إلى مزالق الهلاك: دُمّرت مدنهم، أُحرقت مزارعهم, سُحقت مصانعهم، حُطّمت مدارسهم وجامعاتهم ومستشفياتهم وكل مرافق حياتهم، فتك بهم عدوهم ومزّقهم شرّ ممزق، قُتلوا، أُحرقوا، أُثخنوا بالجراح، أُسروا، عُذّبوا، جاعوا، عطشوا، عزّ عليهم رغيف الخبز أو قطرة الماء أو حبة الدواء أو سقف يحميهم أو رداء يقيهم…. حُوصروا برا وبحرا وجوا، رُوّعوا ليلا ونهارا، يلتقطون شهداءهم أشلاء ومِزقا متناثرة، تقتلهم الحسرة وهم ينظرون إلى جرحاهم ينزفون دون أن يتمكنوا من الوصول إليهم، وعدوّهم يعربد في الطرقات والميادين، يصبّ جام غضبه عليهم، يدخل بيوتهم، يحتلها ويعبث في ممتلكاتهم، وينتهك خصوصياتهم، ويرقص طربا هستيريا على جراحهم وأنّاتهم…..إلخ
فماذا جنوا من هذه الحرب إلا الويلات الجِسام والخسران المبين؟؟؟!
ــ آه كم يلتبس الحق بالباطل في دنيانا الزائفة هذه، وفي إعلام هذا العالم الظالم!!!
فهو ينسى بل يتناسى أعظم ظلم حلّ في هذا الشعب منذ قرن من الزمان:
قد كان آمنا في وطنه مسالما وديعا، يوجّه همّه نحو الزراعة والبناء والحضارة، حتى أتاه من ادّعى ظلما وبهتانا أنّ له حقا دينيا خرافيا تاريخيا أسطوريا مزعوما في أرضه، وآزره في ادعائه غرب استعماري ماكر يناصب العرب والمسلمين العداء المستحكم منذ قرون طويلة من السنين، فاقتُلع صاحب الحق من أرضه، وتمّ تشريده والبطش به ومحاولة سحقه ومحقه وطمس تاريخه ووجوده ولغته ودينه….. ثم توالت فصول الخداع عقودا من الزمان بعد عقود وما زالت، عبر قرارات أممية نظرية تنص على إعادة جزء هزيل من الحق لأصحابه، أو عودة المشردين المظلومين إلى أرضهم، ولاذ الحكماء!!! بالصبر التكتيكي والاستراتيجي، وتزيّنوا بالحلم وسعة الصدر، وبقيت تلك القرارات حبيسة الأدراج، وظلت المأساة تعظم يوما بعد يوم، وتاه صاحب الحق في سراديب المفاوضات التي ابتلعته في بحر الظلمات، وضاعت الأرض وتسرّبت من أيدي أصحابها، ووُضع حدّ ناريّ لهذا الشعب لا يجوز له أن يتجاوزه، وهو محصور في أن تُسلب حريته وهويته وكرامته، وأن يعيش ــ إن سُمح له بالعيش ــ كالأنعام مسلوب الإرادة ممسوخ الشخصية…..
فهل يُلام إن كسر قيده، وتاق لإنسانيته، وطالب بحقه، وهو ابن أمة ماجدة يضرب تاريخها بعيدا وعميقا في أحشاء الزمن ممتدا إلى آلاف الأعوام؟؟؟!
كان لا بد أن يدقّ جدار الخزان لتصطخب ملحمة بطولية عزّ نظيرها، وتتجلى أُسطورة صبر شعبية تكدّ الأذهان وتكلّ عن تصور عظمتها وتخيّل أبعادها.
فهل كان مخطئا مغامرا طائشا جهولا بالحساب وشرور العواقب؟؟؟!
ــ كان يمكن لهذه الملحمة البطولية أن تكتب فجرا للتاريخ جديدا، وأن تقوّم اعوجاجه، وتصوّب لحنه، لولا أن هذا الغرب الظالم قد ارتعدت فرائصه، وتجمّع ما تفرّق من شمله ليتوحّد بصوت واحد على كلمة واحدة : اخنقوا حادي الكرامة هذا واطمسوه في أعماق الأرض قبل أن يكون رائدا صادقا لأهله وطليعة منيرة لأمة أردنا لها سباتا طويلا يجعلها دائما تتأرجح بين الموت والمنام.
فمن المُلام؟
هل نلوم صاحب الحق لدفاعه المشروع عن النفس، ومحاولته إيقاظ الدنيا بأسرها لتعرف وجعه وتدرك ألمه وتسمع صراخه، عسى أن تستيقظ بقايا الضمائر في هذا العالم الغافل المتغافل المتباكي على الديمقراطية وحقوق الإنسان والشرعية الدولية؟؟؟!
أم تُرى يجب أن يلام المعتدي الذي تسبب بهذه المأساة الإنسانية النادرة؟ هذا المعتدي الساديّ المريض الضعيف المتغطي بالزيف، الذي إن ظفر واستقوى لا يرحم، لأنه يخشى صحوة المظلوم، وصولة صاحب الحق، فيسارع إلى سحقه دون هوادة، قبل أن تجتاح الأمة جمعاء عدوى الشعور بالكرامة، فيغتلي فيها الإباء لاسترداد الحقوق والمقدسات المغتصبة، وقبل أن تُدرك هذه الأمة أنها تمور بأسباب القوة والبأس، وعليها أن تتسلح بالإيمان والعلم المعاصر والصناعة الحربية لتحمي نفسها ومقدراتها، ويكون لها مكان عليّ تستحقه بجدارة تحت الشمس.
حــقـــا:
” وليس يصحّ في الأذهان شيءٌ إذا احتاج النهارُ إلى دليلِ “