لو كانت همومك مثل السدود فعليك بأواخر سورة هود

#سواليف

لو كانت همومك مثل السدود فعليك بأواخر #سورة_هود

#الشيخ_كمال_الخطيب

✍️

إنه الله تبارك وتعالى قد جعل الصبر جوادًا لا يكبو وسيفًا صارمًا لا ينبو، وجيشًا لا يُهزم، وحصنًا لا يُهدم. وقد جعل الله سبحانه للصابرين معيّة معه سبحانه لما قال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [آية 153 سورة البقرة]. وإن الصابرين قد ظفروا بخيريّ الدنيا والآخرة وفازوا بالنعم الظاهرة والباطنة، فقال سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [آية 24 سورة السجدة].

✍️وقد أخبر سبحانه أن الصبر خير لأهله: {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ} [آية 126 سورة النحل]، وبشّر سبحانه الصابرين بثلاث بشريات: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ*الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ*أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [155-157 سورة البقرة]. وجعل الفوز بالجنة والنجاة من النار جائزة وجزاء لا يحظى به إلا الصابرون {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [آية 111 سورة المؤمنون]. وقد جعل سبحانه أجر كل عمل معتوم ومعلوم إلا الصبر، فقد جعله الله عظيمًا بلا عدّ ولا حساب {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آية 10 سورة الزمر].

✍️وقد جعل العلماء الصبر على ثلاثة أنواع: الصبر على البلاء والصبر على معصية الله تعالى والصبر على طاعة الله تعالى.

🔷الصبر على البلاء

✍️إنه بضاعة الصدّيقين لأنه شديد وثقيل على النفس البشرية، وكان النبي ﷺ يدعو الله ويقول: “أسألك من اليقين ما تهوّن عليّ به مصائب الدنيا”.

✍️إنه الصبر الذي به تعرف صدق محبة العبد لربه. فكلّ الناس يدّعون حبّ الله تعالى حتى إذا ابتلاهم وامتحنهم بالبلاء والمحن انخلعوا عن هذا الحبّ ولم يثبت إلا الصابرون. ولذلك فقد وصف الله تعالى بالصبر خاصةَ أوليائه وأحبابه وأصفيائه، فقال عن حبيبه أيوب الذي ابتلي فصبر: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [آية 44 سورة ص] ثم أثنى عليه بقوله: {نعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [آية 44 سورة ص]. إنه أيوب عليه السلام الذي بلغ به الأدب مع ربه والرضا عنه رغم ما أصابه من بلاء، أنه قال: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [آية 83 سورة الأنبياء]. إنه ولعظيم أدبه ورضاه عن ربه قال: “مسّني” ولم يقل: “هدّني”.

✍️ وإن الابتلاء قد شبّهه ابن الجوزي بأنه ضيف وعابر سبيل ولا بد أن نكرمه لا أن نتسخّط منه، فقال: “البلايا ضيوف فأحسن قِراها لترحل عنك إِلى بلد الجزاء مادحة لا قادحة، فلولا البلايا لوردنا يوم القيامة مفاليس”.

✍️يقول الدكتور حسان شمسي باشا: “ولو فتحت لك أستار الغيب لأحببت حزنك، ولو رأيت كيف يغرف للصابر غرفًا من الثواب لانتشى قلبك وتلذذت بكل وخزة ألم، يقول الحبيب ﷺ: “يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب، لو أن جلودهم كانت قُرضت في الدنيا بالمقاريض”.

✍️إن من علامات الصبر على البلاء عدم التسخّط على الله تعالى كما قال الشاعر:

وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم

فهذا عروة بن الزبير وقد قال له الأطباء بعد أن قطعوا رجله لمرض أصابه: “سقيناك شيئًا حتى لا تشعر بالوجع، فقال: إنما ابتلاني ليرى صبري أفعارض أمره، إلهي إن سلبت فطالما أعطيت، وإن أخذت فطالما أبقيت، وأبقيت لنا فيك الأمل يا برّ يا وصول”. وقال أحد العارفين: “إذا لقيت في طريقك ابتلاءات وهمومًا مثل السدود فعليك بأواخر سورة هود”، {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [آية 123 سورة هود].

🔷الصبر عن المعصية

✍️إن مشقّة الصبر تكون بحسب قوة الدافع إلى الفعل وسهولة ذلك الفعل على العبد، فإذا اجتمع هذان الأمران كان الصبر شاقًا وصعبًا. ولهذا كان صبر السلطان والحاكم عن الظلم مع قدرته عليه، وصبر الشاب عن المعصية مع قوة الدافع لها، وصبر الغني عن الحرام، له مكانة عند الله تعالى، ولأجل ذلك فقد ضمن الله تعالى لهؤلاء أنهم ممن ورد ذكرهم في الحديث الشريف أن يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه: “سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ يَومَ القِيَامَةِ في ظِلِّهِ، يَومَ لا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: “إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ في عِبَادَةِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ في خَلَاءٍ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ في المَسْجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا في اللَّهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ إلى نَفْسِهَا، قالَ: إنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فأخْفَاهَا حتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ ما صَنَعَتْ يَمِينُهُ”.

✍️قال ابن القيّم رحمه الله: “الصبر عن معاصي اللسان والفرج أصعب أنواع الصبر”. فقد كان صبر يوسف عن مطاوعة امرأة العزيز أكمل وأفضل من صبره على إلقاء إخوته له في الجبّ، لماذا؟ لأنه كان شابًا وكان أعزب وكان غريبًا وكان مملوكًا، وكانت المرأة جميلة وهي التي راودته عن نفسه، وكان المكان آمنًا، وأخذت بالأسباب وهدّدته بالسجن والصَغار، ومع كل ذلك ومع كل هذه الدواعي، فقد صبر يوسف عليه السلام إيثارًا لما عند الله تعالى وقال: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [آية 33 سورة يوسف].

✍️ولماذا كان المال وكانت النساء والوقوع في الحرام من أسهل الطرق للوقوع في شبكات الإسقاط عند أجهزة المخابرات؟! لأن كثيرين يسيل لعابهم للمال وللفاحشة فلا يصبرون عن المعصية فينتفعون فيما حرّم الله تعالى. ولماذا ينجرف الشباب اليوم إلى عصابات الجريمة وتجارة المخدّرات؟! لأن فيها أموالًا طائلة ولا تصبر النفوس الضعيفة على إغراء المال، فتجد أحدهم لا يتردد بأن يقتل بريئًا من أجل المال.

🔷الصبر على الطاعة

✍️إن الصبر على الطاعة امتثالًا لأمر الله تعالى هو فعل المؤمنين الصادقين. وكما أن المسلم مطالب بأن يصبر على المعصية فلا يقع فيها، فإنه مطالب أن يصبر على الطاعة ليؤدّيها ويحافظ عليها، قال الله سبحانه: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [ آية 132 سورة طه]، {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [آية 45 سورة البقرة].

✍️وإن أكمل الناس صبرًا على الطاعة هم أولو العزم من الرسل، ولذلك فإن الله تعالى أمر رسوله ﷺ أن يحذو حذوهم وأن يصبر صبرهم لما قال: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [آية 35 سورة الأحقاف]. ونهاه عن أن يكون مثل يونس عليه السلام والذي رغم كونه نبيًا فإنه لم يصبر على أذى قومه وعدم استجابتهم له، فتركهم ورحل عنهم، {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ} [ آية 48 سورة القلم].

✍️إنه خليل الله إبراهيم الذي صبر على طاعة الله وصابر، فمدحه ربه فقال: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّىٰ} [آية 37 سورة النجم]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: “ما قام أحد بدين الله كلّه إلا إبراهيم فإنه قدّم طعامه للضيفان، وقدّم ولده للقربان، وقدّم نفسه للنيران”.

إنه إبراهيم عليه السلام ومن يصبر صبره؟ يأمره رّبه بجعل ولده وزوجته بواد قفر غير ذي زرع فيطيع، ويأمره بذبح ولده وحيده وهو الشيخ الطاعن فيطيع، ويُلقى في النار فيصبر، ابتلاه ربّه بكلمات فأتمهن، كسّر الأصنام غيرة لربه، ولأجل ذلك كلّه فإنه ولما اشتعلت النيران فإن الله أكرمه إكرامًا لم يكرمه لغيره لما نجّاه من النار، بل إنها أصبحت بأمر الله بردًا وسلامًا عليه {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ} [آية 69 سورة الأنبياء].

✍️وعلى هدي إبراهيم عليه السلام بالصبر على طاعة الله في سبيله، فإنهم أصحاب محمد ﷺ ومن ساروا على دربهم، فإنهم كانوا أساتذة في الصبر على طاعة ربّ العالمين.

فهذا بلال رضي الله عنه وقد هانت عليه نفسه في الله حين كان قومه يطوفون به في طرقات مكة يعذّبونه ويهينونه وهو يقول: أحد أحد..الله أحد.

لقد نالت سياط الكفر يومًا بمكة من ظهور الصالحينا

فمهلًا يا طغاة الشرك مهلًا فطعم السوط أحلى ما لقينا

وما عبنا عليه سوى جراح تصيب الجسم دون الروح فينا

✍️وهذا عمار بن ياسر رضي الله عنه يُعذّب حتى راح يهذي وأصبح لا يدري ماذا يقول، فلقّنوه كلمات بها يسب رسول الله ﷺ قالها.

✍️وهذا خبّاب ينطفئ وهج الحديد المحمّى في النار على ظهره وجلده، بينما هو صابر ويقول:

ولست أبالي حين أقتل مسلمًا على أيّ جنب كان في الله مصرعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أشلاء شلو ممزع

✍️وإنه صبر الدعاة والعلماء وحملة الراية في هذا الزمان الذين عُذّبوا وسُجنوا وطوردوا وطُعن في أعراضهم وصودرت أموالهم، بل إنهم الذين ماتوا في زنازين الظالمين كما هو حال الشهيد محمد مرسي وعصام العريان ومحمد مهدي عاكف الذين قضوا في سجون السيسي وعشرات أمثالهم، بينما عشرات الآلاف ما زالوا في غياهب الزنازين جوعًا ومرضًا وحرمانًا حتى من رؤيه أهاليهم فصبروا في الله. فها هو الشيخ الدكتور محمد بديع والشيخ راشد الغنوشي والشيخ سلمان العودة والشيخ ناصر عمر والشيخ سفر الحوالي وأمثالهم وقد تجاوزوا 80 سنة من أعمارهم، كان بإمكان هؤلاء أن يكونوا من شيوخ السلاطين يداهنون بدينهم فيصبّ عليهم المال صبًا، ولكنهم اختاروا أن يكونوا من أصحاب كلمة الحقّ في وجه سلطان جائر فصبّ عليهم العذاب صبًا.

✍️إن الصبر على طاعة الله طريق طويل تعب فيه آدم، وناح فيه نوح، وأُلقي في النار إبراهيم، واضطجع للذبح إسماعيل، وشُقّ بالمنشار زكريا، وذُبح بالسكين السيد الحصور يحيى، وعاش مع الوحوش عيسى، وقاسى الضرّ أيوب، وزاد في البلاء داوود، واتُهم بالسحر والجنون محمد ﷺ. إنه طريق الصبر على طاعة الله قُتل فيه عثمان وعلي، وطُعن عمر وقُتل الحسين وسعيد بن الجبير، وعُذّب سعيد بن المسيب ومالك وأحمد بن حنبل، وعُلّق على حبل المشنقة عمر المختار وسيد قطب.

🔷غزة مدرسة الصبر

✍️وإذا كان الحديث عن الصبر فليس معناه الحديث عن شخص بعينه ممن عُرف واشتهر بالصبر على البلاء كأيوب، أو بالصبر على المعصية كيوسف، أو بالصبر على الطاعة كإبراهيم، بل لعلّها شعوب بأكملها ممن صبرت على البلاء بكل مفرداته من القتل والجوع والسجن والتهجير والمرض، لا لشيء إلا لأنها أرادت أن تعيش عيش العزّة والكرامة، ولأنها ما أرادت أن تفرّط في هويتها ودينها. هذا ما حصل لأهلنا في سوريا وما يحصل لأهلنا في السودان وما حصل وما يزال يحصل لأهلنا وأبناء شعبنا في غزة.

✍️ فقد تشرّدت الأسر والعوائل، وقُتل فلذات الأكباد، وفقد الناس بيوتهم ومصدر رزقهم، وتاهوا في الأرض مرة بعد مرة. فمن لم يقتله الصاروخ والرصاص في غزة قتله الجوع، ومن لم يقتله الجوع قتله المرض، ومن لم يقتله المرض قتله البرد، ومن لم يقتله البرد قتله الهمّ والكمد إنه ابتلاء وأي ابتلاء.

ابتلاء نزل في دار الغنيّ والفقير، الصالح وغير الصالح. وليس أنه فقط أفقد البعض بيوتهم وأبناءهم، بل إنه أفقد البعض عقولهم وأفقد البعض مبادئهم. ابتلاء كسر قلوب الأمهات وأبكى عيون الرجال.

✍️ لكنها غزة التي ما هانت رغم الخذلان وما داهنت رغم الجوع والحرمان، غزة التي لا تعرف على ألسنة أبنائها إلا الحمد والشكر. غزة التي فقد الأب أربعة من أبنائه بل كل عائلته وإذا به يقول: هل رضيت يا رب، المهم أن ترضى يا ربّ.

✍️غزة التي أصبحت مدرسة بل جامعة تعلّم عن بُعد فتصل رسائلها إلى مشارق الأرض ومغاربها، فأنارت قلوبًا كانت غافلة، وأحيت ضمائر كانت مريضة وألهمت عقولًا كانت ضالة، فهل بعد هذا كلّه سيخزي الله غزة؟ معاذ الله، هل سيخذل الله غزة؟ لا والله، هل سيضيع الله غزة؟ حاشا لله.

قال الإمام علي كرم الله وجهه:

إذا اشتملت على اليأس القلوب وضاق بما به الصدر الرحيب

أتاك على قنوط منك غوث يجيء به اللطيف المستجيب

وكل الحادثات وإن تناهت فموصول بها الفرج القريب

نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.

رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.

والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى