#لمْ يبقَ ( #حارات ) في #الأردن
الأستاذ الدكتور #رشيد_عباس
على هامش الفيلم الأردني (الحارة) الذي أثير حوله مؤخراً لغط كبير وضجة اجتماعية واسعة.. حيث كانت تدور أحداث الفيلم في حارة تحكمها النميمة والعنف في شرق عمّان، ليقوم شاب مخادع بتذليل الصعوبات ليكون مع حبيبته، لكن والدتها تقف عائقاً أمام اكتمال قصتهما، وعندما التقطت كاميرا شخص مبتز مقطعاً مصوراً لهما في وضع حميمي، تلجأ الأم في الخفاء إلى عصابة لتضع حداً لما يحدث، لكن الأمور لا تجري كما خُطط لها.
أستغرب ويستغرب كثر أخرون معي, أننا ما زلنا نتحدث بلغة الحارة, في الوقت الذي تخلصت فيه مُدننا وقُرانا وبُوادينا وحتى مُخيماتنا من شيء اسمه الحارة, ولم يعد حتى في أذهاننا وثقافتنا حيثيات الحارة, فقد انتقلنا بكل ما تحمله الكلمة من معاني حقيقية من واقع الحارة المتماسك إلى واقع (الحي) المفكك.. وحمل هذا الواقع الجديد ثقافة جديدة من حيث علاقة وروابط الناس بعضهم مع بعض, ومن حيث أنماط الحياة المعيشية فيه أيضاً.
أستغرب ويستغرب كثر أخرون معي, كيف أن بعض الأدباء ما زالوا للأسف الشديد يستخدموا لغة الحارة, في الوقت الذي نفضت فيه الحارة عباءتها القديمة المتماسكة, إلى أن ارتدت ولبست عباءة جديدة للأسف الشديد متحررة من جميع قيودها القديمة, وباتت تنحصر وتتلاشى فيها بعض الارتباطات والعلاقات الاجتماعية شيئاً فشيء.
كانت الحارة بمفهومها القديم مجموعة من المباني والأسوار المتقاربة والأزقة المتداخلة والطرقات المتعرجة وكانت تأخذ اسم متعارف عليه في ذلك المجتمع, والأهم من كل ذلك كان يحكمها مجموعة من الضوابط والروابط والصلات الاجتماعية المتينة, وكان محسوب فيها بدقة كل تصرف وكل سلوك غير لائق يظهر ويحدث فيها, ومع دخول (التكنولوجيا) وامتداداتها بدأت هذه الروابط والضوابط الاجتماعية تنحصر وتتلاشى تدريجاً مع مرور الزمن, حتى وصلنا إلى واقع جديد يدعى (الحي).
اليوم نحن أمام أحياء بثقافة جديدة ضعف فيها الضوابط والروابط والصلات الاجتماعية, أحياء الكل فيها يغني على ليلاه بمعزوفته الخاصة, أحياء تصرفات وسلوكيات البعض فيها لا تعني الآخرين بشيء, وبات فيها الناس غير ابهين ومعنيين ببعضهم البعض, الغني فيها غني والفقير فقير, المنضبط فيها منضبط, والمُنّحل فيها والعياذ بالله مُنّحل.. أحياء قواعد العلاقات فيها بُنيت على مبدأ المصالح المادية المشتركة فقط.
أتمنى على المخرجين في قادم الأيام أن يراجعوا حساباتهم بدقة عندما يكتبوا عن الحارة وحيثياتها, كيف لا وقد تغيرت ثقافة الحارة وحيثياتها, وتحولت بفضل التكنولوجيا إلى أحياء استقل ساكنيها بعضهم عن بعض, وكتبوا على أبوابهم (ولا تزر وازرة وزر أخرى).. أحياء الكل فيها يدور في فلكه وفضاءه ومساره الخاص به, الكل فيها تحرر عن قانون جاذبية نيوتن, وحكمتهم فيها مكرهين القوة الطاردة عن المركز لأرخميدس.
كان الأطفال والأولاد في الحارة يلعبوا معاً, وكان في ذلك بعد إيجابي مطلوب في علم النفس التربوي لصقل وبناء شخصياتهم, واليوم ومع مفهوم الحي تلاشت مثل هذه الظواهر المفيدة, وبات كل طفل وشاب مرتمياً في زاوية من زوايا المنزل منهمك مع جهازه الخلوي, يلوذُ به هنا وهناك, ويعيش لوحده في عالم آخر.
إلى كتّاب الروايات والقصص والمقالات والخواطر الأفاضل أقول: لقد أنفرط عقد الحارة والذي كنا نعيش فيه حالة من: (وتعاونوا على البر والتقوى), واليوم نعيش حالة جديدة مختلفة تدعى الحي ويسودها: (ولا تزر وازرة وزر أخرى), وغداً سنعيش حالة مختلفة تماماً سنطلق عليها اسم الضاحية وسيسودها: (لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه).
نعيش اليوم ثقافة (الحي) حتى في عمان الشرقية..
دمتم بخير.