
لماذا ننصح #طلبة_الثاني_عشر اختيار #مادة_الفلسفة؟
د. #أيوب_أبودية
الفلسفة رحلة نحو التفكير النقدي والنجاح الأكاديمي والشخصي. ففي المرحلة الثانوية الأخيرة، يبدأ الطلبة بالتفكير في المستقبل: الجامعة، سوق العمل، بناء الشخصية. وفي خضم هذه الانشغالات، قد يُهمل كثير من الطلبة مادة الفلسفة، ظنًّا منهم أنها مادة “نظرية” صعبة لا تقدم فائدة عملية. لكن الدراسات الأكاديمية أثبتت أن الفلسفة ليست مجرد قراءة لأفكار الفلاسفة القدماء، بل هي أداة تدريب ذهني متكاملة تصقل شخصية الطالب وتؤهله للتفوق الأكاديمي ولحياة عملية ناجحة مليئة بالثقة.
إذ نستذكر أيضا استراتيجية اليونسكو للتشارك بين مختلف القطاعات العاملة في المجتمع بشأن تفعيل الفلسفة كأداة تواصل (المعتمدة في عام 2005)، والتي نصت على أن الفلسفة تطوّر الأدوات الفكرية لتحليل مفاهيم أساسية وفهمها، مثل العدالة والكرامة الانسانية وحدود الحرية والتعاون، من خلال بناء قدرات على التفكير المستقل وتعزيز ملكة الحكم على القضايا الأخلاقية والجمالية والثقافية، وذلك من خلال تطوير المهارات الأساسية، النظرية والعملية، لفهم العالم وادراك تحدياته.
وتشير أيضا إلى أن الركيزة الثانية للاستراتيجية المذكورة أعلاه تقوم على تشجيع تدريس الفلسفة في جميع البلدان، سيما من خلال وضع توصيات لسياسات مستدامة بشأن تدريس الفلسفة في المرحلتين الثانوية والجامعية، بحيث تشمل تدريس الاتجاهات الفلسفية المختلفة على تنوعها، وكذلك المقارنة في ما بينها على قاعدة من الحياد. فالفلسفة؛ استنادا إلى نتائج الدراسة التي نشرتها منظمة اليونسكو عام 2007 هي مدرسة للحرية.
وقد يجادل النقاد أن تدريس الفلسفة في المدارس غير عملي أو غير ذي صلة بمتطلبات القوى العاملة الحديثة. ومع ذلك، فإن المهارات والتصرفات التي يعززها البحث الفلسفي – التفكير النقدي، وحل المشكلات بشكل إبداعي، والتواصل الفعال بين الباحثين، والتفكير الأخلاقي – الانساني هي السمات التي يبحث عنها أصحاب العمل في اقتصاد عالمي منفتح سريع التغير. علاوة على ذلك، فإن فوائد الفلسفة تمتد إلى ما هو أبعد من المنفعة الاقتصادية، وإثراء حياة الطلبة وتمكينهم من عيش حياة ذات معنى ومرضية مسترشدة بالعقل والرحمة والالتزام بالحقيقة والعدالة والمعايير الأخلاقية، فقد أثبتت الدراسات أن الطلبة الذين يدرسون الفلسفة يبدعون أكثر في العلوم الأخرى التي يدرسونها.
فإحدى الدراسات البارزة المثيرة للاهتمام هي بعنوان “فوائد الفلسفة للأطفال في المنهج المدرسي: رؤى من علم الأعصاب التربوي وعلم النفس الإيجابي” لستيفن نوريس ونوربرت سيموليك. يستكشف هذا البحث كيف يعزز إدخال الفلسفة في المناهج الدراسية القدرات المعرفية للطلبة، بما في ذلك التفكير النقدي والاستدلال ومهارات حل المشكلات، والتي أثبتت الدراسات أنها تؤدي بدورها إلى أداء أفضل للطلبة في المواد الأخرى مقارنة بأداء الطلبة الذين لا يتعلمون الفلسفة.
ويأتي الدليل من أن النظام التعليمي العالمي IB الشهير الذي ينخرط في التقديم لامتحاناته سنويا مئات الالاف من الطلبة المتميزين من مختلف أصقاع الأرض، حيث يحتوي البرنامج على مادتين لهما علاقة بالفلسفة، الأولى هي مادة الفلسفة نفسها، وهي مادة اختيارية حاليا، ولكن هناك محاولات جادة لجعلها إجبارية، والثانية وهي نظرية المعرفة TOK، وهي إجبارية للطلبة جميعا، ولا ينجح في البكالوريا مَن لم ينجح في هذه المادة مهما كان مبدعا.
لذلك، نستطيع القول إن إطلاق الفلسفة كمادة اختيارية في مناهج التربية والتعليم خطوة رائعة تثنى عليها، ولكننا نأمل أن تصبح اجبارية العام القادم، وإلزامها أيضا للصف الحادي عشر. ونأمل ألا تكتفي بذلك بل أن تعمل على دمج الفلسفة في المناهج الدراسية كافة، كما يفعل برنامج البكالوريا، فمثلا يطرح البرنامج تساؤلات فلسفي ضمن المواد العلمية جميعها، ففي الفيزياء يطرح للنقاش تساؤلاً فلسفيا، مثل:
كيف تختلف المناهج المستخدمة في مبحث الفيزياء عن تلك التي تستخدم في العلوم الاجتماعية؟
وفي الأحياء: هل يمكن استخدام نماذج بيولوجية معقدة، كالخلية، للاستدلال على وجود قوى ميتافيزيقية؟
وفي الرياضيات: هل النظريات الرياضية تُخترع أم تُكتشف؟
الفلسفة ليست مجرد ترف فكري، بل ضرورة معرفية ووجودية في عالم سريع التغير، كما أنها استثمار في مستقبل الناشئة، ورفاهية مجتمعاتنا، وسرعة اندماجها في العالم على قدم المساواة. فلنستعرض بعض مزايا تدريس الفلسفة:
- الفلسفة كتمرين ذهني: بناء عقل منطقي نقدي
الفلسفة تُعلِّم الطلبة كيف يطرحون أسئلة عميقة وكيف يبحثون عن إجابات دقيقة. دراسة الفلسفة هي بمثابة تمرين يومي للعقل، تُكسب الطالب قدرة على تحليل النصوص المعقدة، وكشف المغالطات، واستخدام أدوات التفكير المنطقي.
وتشير دراسة منشورة في مجلة Teaching Philosophy (2018) إلى أن الطلبة الذين يدرسون الفلسفة يحققون نتائج أعلى في اختبارات التفكير النقدي مقارنة بنظرائهم في التخصصات الأخرى، لأنهم يتدربون على تحليل المفاهيم والتمييز بين الحجة الصحيحة والضعيفة منطقيا.
- مهارات الحوار والإقناع: من الصف إلى المجتمع
واحدة من أبرز ميزات الفلسفة أنها تعلم فن الحوار. ويعود الفضل إلى سقراط وأفلاطون في تطوير أسلوب الحوار الجدلي الذي يركز على السؤال المفتوح والنقاش المتبادل. ففي الصف الفلسفي، يتعلم الطالب احترام الرأي الآخر، والتعبير عن رأيه بلغة واضحة وحجج قوية.
هذه المهارات تنعكس في حياة الطالب اليومية: من النقاشات العائلية، إلى مقابلات الجامعة، إلى بيئات العمل.
وكما يقول الباحث المعروف نيكولاس بربولس: الحوار الفلسفي في الصف ليس مجرد درس، بل تدريب على الديمقراطية الفكرية، حيث يتعلم الطالب أن يشارك الأفكار ويستمع للآخرين بوعي وقبول بالرأي الآخر.
- التفكير العلمي والجذور الفلسفية للعلوم
قد يظن البعض أن الفلسفة بعيدة ومستقلة عن العلوم الطبيعية، لكن التاريخ يكشف أن الفلسفة كانت الحاضنة الأولى للعلم. فالعلماء الكبار مثل ديكارت ونيوتن وأينشتاين بدأوا من أسئلة فلسفية حول الكون والمعرفة.
وتعزز الفلسفة الفضول الفكري، وحب التعلم مدى الحياة، من خلال تعريض الطلبة لأسئلة متجددة حول الوجود والمعرفة والأخلاق والجمال وطبيعة الواقع، حيث تشجعهم الفلسفة على التشكيك في الفرضيات والمسلمات في مختلف العلوم، بما في ذلك العلوم الطبيعية منها، واستكشاف وجهات نظر متنوعة، ونشدان علمية التعامل مع نسبية المعرفة من جهة الحقائق المطلقة.
الفلسفة الحديثة تُدرّب الطلبة على أسلوب التفكير العلمي: صياغة فرضيات، تحليل أدلة، تصميم تجارب واستخلاص نتائج. وتقرير الجمعية الفلسفية الأمريكية (APA) يؤكد أن طلبة الفلسفة يحققون درجات مرتفعة في اختبارات GRE وLSAT، وهي اختبارات قياسية لدخول الدراسات العليا في مجالات العلوم والقانون .
- أثر الفلسفة على النجاح الأكاديمي في مواد أخرى
الفلسفة ليست مادة “منفصلة” عن بقية المواد؛ بل هي أداة تطوير شامل. في دراسة نشرتها Journal of Philosophy of Education عام 2016، بعد أن تابعت طلابًا في مدارس ابتدائية ومتوسطة شاركوا في برامج التفكير الفلسفي، أثبتت أن الطلبة أظهروا تحسنًا واضحًا في مهارات الرياضيات واللغة وغيرهما، نتيجة تدريبهم المستمر على التحليل والمنطق، وهذا يثبت أن الفلسفة ليست مجرد مادة إنسانية، بل وسيلة لتحسين الأداء الأكاديمي في مختلف المجالات.
- الفلسفة وبناء شخصية متوازنة
الفلسفة تعلم الطلبة كيف يفكرون بأنفسهم، بدلًا من تكرار أفكار الآخرين. وهي تدربهم على التأمل في القضايا الأخلاقية، مما يعزز الوعي الذاتي ويقوي القدرة على اتخاذ قرارات صائبة في الحياة.
كذلك، فإن تدريس الفلسفة يغذي التعاطف sympathy والاعتطاف empathy وينمي فهما أعمق للتجارب ووجهات النظر الإنسانية. فمن خلال البحث الفلسفي، يتم تشجيع الطلبة على التفكير في قيمهم ومعتقداتهم وتحيزاتهم ومقارنتها بتنوع وجهات النظر المختلفة التي تشكل عالمنا الكبير.
ومن خلال التعامل مع المعضلات الأخلاقية ودراسة أسس العدالة والمساواة، وحقوق الإنسان والحيوان والطبيعة الحية بمجملها، يطور الطلبة شعورا قويا بالتعاطف والرحمة والاعتطاف، مما يضع الأساس لعلاقات شخصية معولمة هادفة، ومواطنة نشطة تستوعب المعتقدات الدينية والعرقية والاقليمية والمناطقية المتنوعة ولا تسعى إلى هدمها.
- الفلسفة والمواطنة والعولمة
بالإضافة إلى تعزيز النمو الفردي، يحمل تدريس الفلسفة على مستوى المدرسة القدرة على تحفيز التقدم المجتمعي من خلال رعاية القادة المطلعين والأخلاقيين وشعورهم بالمواطنة والعولمة. ففي عالم متزايد الترابط ومليء بالتحديات المعقدة، من تغير المناخ إلى الظلم الاجتماعي والحروب والابادة الجماعية للشعوب، حال فلسطين اليوم، إلى إبادة الآخر المختلف بالنزاعات المذهبية والطائفية والعرقية والثقافية، فقد ظهرت الحاجة إلى القيادات الأخلاقية والانسانية أكثر إلحاحا من أي وقت مضى.
اذ تزود الفلسفة الطلبة بالتفكير الأخلاقي والوعي النقدي اللازم لمواجهة هذه التحديات بنزاهة وتعاطف واعتطاف، وبالتالي تعزز وجود مجتمعات أكثر عدلاً واستدامة وإنسانية واستيعابا للآخر وفق مقولة الإمام الشافعي: “رأيي صواب ولكن يحتمل الخطأ، ورأيك خاطىء ولكن ربما يحتمل الصواب”.
إن إدخال الفلسفة في المنهج الدراسي يعزز أيضا الشمولية والتنوع، من خلال استكشاف أعمال الفلاسفة من خلفيات ثقافية وعرقية ودينية متنوعة، إذ يكتسب الطلبة نظرة ثاقبة لثراء الفكر الإنساني وتعقيده وترابطه، فيتحدى الصور النمطية ويعزز الاحترام والتفاهم المتبادلين بين مختلف الثقافات. فالفكر العربي الإسلامي وحضارته له جذور في اليونان وفارس والهند والصين، وجذورنا الفلسفية والعلمية والأدبية والفنية راسخة في الفلسفة الاوروبية وعلومها وآدابها وفنونها.
- الفلسفة وسوق العمل: مهارات قابلة للاستخدام
يعتقد البعض أن الفلسفة لا ترتبط بالوظائف، لكن الواقع أن أصحاب العمل يبحثون عن مهارات التفكير النقدي وحل المشكلات أكثر من أي تخصص محدد. الفلسفة تمنحك قدرة على التواصل والإقناع، وهي مهارات مطلوبة في مجالات متعددة: من القانون والسياسة، إلى ريادة الأعمال، إلى الإعلام.
في تقرير صادر عن المنظمة الأميركية (AAC&U) يشير إلى أن أرباب العمل يعتبرون التفكير النقدي والقدرة على التواصل من أهم المهارات المطلوبة، وهي المهارات الأساسية التي يكتسبها دارسو الفلسفة.
خلاصة القول: إذا كنت في سنتك الأخيرة من المدرسة وتبحث عن مادة تثري عقلك، فإن الفلسفة خيار ذكي. فلن تقتصر الفائدة على رفع العلامات الدراسية، بل ستمتد إلى دعم شخصيتك ومهاراتك الحياتية. الفلسفة تعلمك أن تسأل لماذا؟، وأن تبني عالمك الفكري بوعي واستقلالية. ففي عصر يتميز بالتقدم التكنولوجي السريع والديناميات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المتطورة باستمرار، وخاصة في ظل التغير المناخي وآثاره على شتى بقاع الارض، وما ينجم عن ذلك من صراعات حول الطاقة والمياه والأرض والثروة والوظائف، يتجاوز دور التعليم مجرد نقل المعرفة وحفظها، اذ بات يستدعي تعزيز التفكير النقدي ودراسة البعد الأخلاقي والفهم الأعمق للتجربة الإنسانية، فضلا عن تسويغ التنوع الثقافي والديني والعرقي والسياسي. ويبرز تدريس الفلسفة على مستوى المدرسة كوسيلة فعالة لتحقيق هذه الأهداف، مما يوفر عددا لا يحصى من الفوائد التي تمتد إلى ما هو أبعد من حدود الفصل الدراسي ومواده الأساسية.