لغتنا الجميلة
د. هاشم غرايبه
في القرن الحالي تخلى #العرب عن منهج الله لأول مرة بعد أن تمسكوا به أربعة عشر قرنا، بوهم أن ذلك سيحقق لهم التقدم، لكنهم سقطوا أكثر في وهدة #الإنحطاط والتخلف، كما تميز باستهداف هويتهم الثقافية (اللغة)، فظهر المغرضون من المتعصبين ضد #الإسلام، وبثوا سموم حقدهم بشكل دعوات لهجر #اللغة_العربية والاستعاضة عنها باللهجات المحكية.
من أشهرها دعوة “سعيد عقل” باعتماد اللهجة اللبنانية كلغة، وباستخدام الحروف اللاتينية، في استحضار للمشروع الأتاتوركي، الذي تمكن فيه بهذه الوسيلة من قطع الأجيال الجديدة عن القرآن والتاريخ الحضاري الإسلامي.
سقطت هذه الدعوة الخبيثة بسهولة، وانضمت الى شبيهاتها لتستقر في مزبلة التاريخ، ولتعطي إثباتا آخر على أن اللغة العربية هي أم اللغات وأقواها، ولن يتمكن الحاقدون منها ولو ساندهم كل شياطين الإنس والجن.
مقدم البرامج الأوروبي “تيري مور”، الذي أنفق ستة أعوام من وقته حتى أتقن العربية يقول: “تركيب الألفاظ والجمل العربية يشبه المعادلات الكيميائية، فكل حرف في الكلمة له وظيفة وترتيبه له معنى، وكل تغيير في ترتيب مفردات الجملة يؤدي غرضاً مختلفاً”.
لو أسقطنا معاني هذا الفهم على أية كلمة أو جملة لوجدنا ذلك صحيحا تماما، وكأن هذه اللغة جاءت نتاج هندسة دقيقة متقنة، وبصورة محكمة، وليست تطوراً تجريبيا على مدى العصور، مثل اللغات واللهجات الأخرى.
ربما أن ذلك يؤكد النظرية القائلة بأن اللغة العربية مخلوق من ضمن ما خلقه الله، وليست كما يقول البعض أنها اختراع بشري، ولا يتسع المجال هنا لمناقشة أفكار من يسعى الى تقزيم العربية وجعلها اشتقت من لغات أخرى كالسريانية أو الآرامية أو الأكدية، فلماذا لا يكون العكس!؟، والدليل أن كل تلك اللغات بادت لهزالتها وضعفها، فيما ازدهرت العربية وسادت.
بما أن الإسلام هو الدين عند الله، فإن اختيار العربية لغة كتاب الله، ليس لكي يفهمه العرب الذين أنزل عليهم فقط، بل لأن حمل معانيه الجليلة يحتاج الى لغة قوية، والى قدرة على حمل التفسيرات المتطورة مع تطور معارف البشرية، وبالألفاظ والعبارات نفسها التي كانت تفسر المعاني يوم كانت معارفهم محدودة، وما كان الله ليترك لغة بهذه المواصفات بين أيدي قوم ليس لهم باع كبير في العلم والقوة لكي تترعرع في كنفهم مثل باقي اللغات، بل سيخلقها قوية أصلا غير قابلة للتحلل والإنقراض.
وربما أن تميز العرب بالفصاحة والبلاغة تحقق من تميّز لغتهم، فهي التي صقلت مواهبهم الأدبية وليس العكس، وشاءت إرادة الله أن يهبهم الفصاحة والبلاغة لكي تبقى اللغة حية، فاللغة كالنبات تنمو وتترعرع بالعناية، أو تذبل فتموت بالإهمال.
ان كان هذا رداً غير كاف على أقوال من يحاولون النيل من العربية بهدف مهاجمة كتاب الله، سأورد صورة واحدة من آلاف صور كمال العربية وجمالها، وميزة من عشرات الميزات التي تنفرد بها العربية، وهي التضعيف.
ومعنى التضعيف تكرار أحد الحروف الثلاثة لجذر الفعل على وزن (فَ عَ لَ)، باستعمال علامة الشدة، فدلالات الزيادة على الجذر الثلاثي للفعل بالتضعيف (فَعّلَ)، تغير معنى الفعل باتجاه التكرار والمداومة، وهي تكسب الفعل مواصفات مختلفة، وتثريه بدلالات جديدة.
فقولك كسّر وقطّع هي غير كسَرَ وقطَعَ ، ففيها الكثرة والزيادة في فعل الشيء وكأنك ضاعفت الفعل، إذا فتأثير إشارة (الشدّة) على عين الفعل يماثل تماما الصورة التي أنتجتها وتصورها العقل، وذلك يؤكد قول (مور) فإضافة عنصر الشدّة الى الفعل انتج مركبا كيميائيا جديدا بمواصفات مختلفة.
ففي قوله تعالى:”وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ” معنى يفيد بتوفير الخلوة التامة، والفرق كبير بين (غَلَقَ) الباب التي تعني عكس فتحه، وغلّقه التي تعني ارتاجه بحيث لا يتسنى فتحه إلا لمن يمتلك مفتاحه.
كما أن (بَذَرَ) تعني وزّع البذر بانتظام بقصد الزراعة، وهو أمر نافع، لكن (بذّر) تعني أكثر من البذر بما لا ينفع، بل هو ضار لأنه يقلل من الإنتاج، لذلك جاء قوله تعالى:”وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً”، فأعطى الذهن الصورة المطابقة للمعنى المراد ومن غير استعمال لفظة جديدة، بل اكتفي بتضعيف عين الفعل، ولم تكن لتصلح لفظة (الإسراف) لتسد محل (التبذير)، فالتبذير يعني صرف الشيء فيما لا ينبغي، لكن الإسراف هو صرف الشيء فيما ينبغي زائداً على ما ينبغي.