
د. #هاشم_غرايبه
شاهدت لدقيقة – على غير اختيار مني – حوارا في إحدى الفضائيات العربية، قبل أن أشيح بوجهي عن التلفاز مغضبا، لم يكن سبب غيظي من استعمال اللهجة اللبنانية بديلا عن اللغة العربية فقط، بل لأن أغلب الحديث كان بعبارات بالإنجليزية، وكأن المتحاورين يقولان ان العربية قاصرة عن التعبير عما يريدان قوله.
استذكرت قول مقدم البرامج الأوروبي “تيري مور”، عندما أنفق ستة أعوام من وقته حتى أتقن العربية: ” تركيب الألفاظ والجمل العربية يشبه المعادلات الكيميائية، فكل حرف في الكلمة له وظيفة وترتيبه له معنى، وكل تغيير في ترتيب مفردات الجملة يؤدي غرضاً مختلفاً “.
لو أسقطنا معاني هذا الفهم على أية كلمة أو جملة لوجدنا ذلك صحيحا تماما، وكأن هذه اللغة جاءت أصلا نتاج هندسة دقيقة متقنة، وبصورة محكمة، وليست مثل اللغات واللهجات الأخرى تطورت تجريبيا على مدى العصور.
ربما أن ذلك يؤكد النظرية القائلة بأن اللغة العربية مخلوق من ضمن ما خلقه الله، وليست كما يقول البعض أنها اختراع بشري، ولا يتسع المجال هنا لمناقشة أفكار من يسعى الى تقزيم العربية وجعلها اشتقت من لغات أخرى كالسريانية مثلا، فلماذا لا يكون العكس، وهل السريان أمة سابقة لوجود العرب؟، أم هم مجرد قوم من أقوام نسل سام بن نوح الآيلة للانقراض، مثلها مثل الآراميين والكلدان والأشوريين؟.
إن اختيار العربية لغة كتاب الله، ليس لكي يفهمه العرب الذين أنزل عليهم فقط، وبما أن الإسلام هو الدين عند الله، فلا بد أن تحميل معانيه الجليلة يحتاج الى لغة قوية، والى قدرة على حمل التفسيرات المتطورة مع تطور معارف البشرية وبالألفاظ والعبارات نفسها التي كانت تفسر المعاني يوم كانت معارفهم محدودة، وما كان الله ليترك لغة بهذه المواصفات بين أيدي قوم ليس لهم باع كبير في العلم والقوة لكي تترعرع في كنفهم مثل باقي اللغات، بل سيخلقها قوية أصلا غير قابلة للتحلل والإنقراض.
وربما أن تميز العرب بالفصاحة والبلاغة تأتّى من تميّز لغتهم، فهي التي صقلت مواهبهم الأدبية وليس العكس.
لا أقول ان هذا رد كاف على أقوال من يحاولون النيل من العربية بهدف مهاجمة كتاب الله، لكني سأورد صورة واحدة من آلاف صور كمال العربية وجمالها، وهو دلالات الزيادة على الجذر الثلاثي للفعل بالتضعيف، وهي ميزة تنفرد بها العربية، حيث أن (فَعّلَ) تكسب الفعل مواصفات مختلفة، وتثريه بدلالات جديدة.
فقولك كسّر وقطّع هي غير كسَرَ وقطَعَ ، ففيها الكثرة والزيادة في فعل الشيء وكأنك ضاعفت الفعل، إذا فتأثير إشارة (الشدّة) على عين الفعل يماثل تماما الصورة التي أنتجتها وتصورها العقل، وذلك يؤكد قول (مور) فإضافة عنصر الشدّة الى الفعل انتج مركبا كيميائيا جديدا بمواصفات مختلفة.
ففي قوله تعالى: “وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ” معنى يفيد بتوفير الخلوة، فالفرق كبير بين (غَلَقَ) الباب التي تعني عكس فتحه، وغلّقه التي تعني ارتاجه بحيث لا يتسنى فتحه إلا لمن يمتلك مفتاحه.
كما أن (بَذَرَ) تعني وزّع البذر بانتظام بقصد الزراعة، وهو أمر نافع، لكن (بذّر) تعني أكثر من البذر بما لا ينفع بل هو ضار لأنه يقلل من الإنتاج، لذلك جاء قوله تعالى:”وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً” بمعنى النهي عن الإسراف، فأعطى الذهن الصورة المطابقة للمعنى المراد ومن غير استعمال لفظة جديدة، بل اكتفي بتضعيف عين الفعل، ولم تكن لتصلح لفظة (الإسراف) لتسد محل (التبذير)، فالإنفاق هو بذل باعتدال، لكن التبذيرهو مبالغة في الانفاق لدرجة تحول النتيجة الى الضرر، لكن الإسراف هو إضاعة الجهد أو الوقت أو المال فيما لا وجوب له أصلا .

