#لغتنا_الجميلة
د. #هاشم_غرايبه
تزخر لغتنا العربية بعدد هائل من الألفاظ، بحيث تجد لكل شيء توصيفا، وتتقارب المعاني وتدق الألفاظ لدرجة يحسبها البعض مترادفة، لكنها في الحقيقة غير ذلك، فلا ترادف في العربية، ولكل لفظة معنى يختلف.
لقد أغنى القرآن الكريم لغتنا بالكثير من الأبنية اللغوية (المصادر) التي بنيت من جذور ثلاثية أو رباعية، واستعملها البلغاء بكثرة، لدرجة أصبح من الصعب الفصل في أصلها، هل وجدت قبل القرآن أم جاءت منه، إلا من تتبعها في أشعار الجاهلية، لكن ذلك لم يهتم به أحد، لأن أحد أفضال القرآن على العرب أنه وحد لغتهم وحافظ عليها من الإندثار أو التفكك الى لهجات محلية متعددة.
وهكذا نجد أن اللغة هي الناجي الوحيد من شرور المستعمر الأوروبي، فقد تمكن من شرذمة الأمة وتهديم بنيانها الإجتماعي والسياسي، ونجح بزرع العسس من أتباعه بيننا، يشككون في تاريخنا لينشروا فينا اليأس ويبثوا روح الإحباط، لكنه فشل نسبيا فيما يتعلق باللغة، لأن ما يحميها كلام الله، لذلك تركزت جهودهم على التجهيل باللغة، والحط من مقام المتمسكين بها، كما نشط عسسهم بإشاعة الركاكة والتحدث بلغات أجنبية من أجل هجرها.
لذا فمن واجب المخلصين التصدي لهذا التخريب الذي يتم ممنهجا بحماية الأنظمة العميلة، سواء كان عن رضوخ لها لإملاءات العدو الفارض التبعية عليها، أو لانفصالها عن أمتها وانسلاخها عن ثقافتها، لذلك يجب نشر الوعي بأهمية الحفاظ على اللغة العربية الفصيحة، وإعادة الألق اليها، وتعميق ارتباط الأجيال الجديدة بها، فهم المستهدفون بسياسة التجهيل اللغوي، ولأجل هذا الهدف أكتب بين الفينة والأخرى تحت عنوان: لغتنا الجميلة.
إن جمال اللغة ليتبدى بأبهى صوره في القرآن الكريم، وفي آياته هنالك الكثير من البيان الذي يستوجب التبيين، ولا يمكننا فهمه إلا بالرجوع الى مقاصد الآيات القرآنية.
فما الفرق بين الحياة والمحيا مثلا؟.
الحياة تطلق على الحيوية بشكل عام، أي على كل كائن حي، ففي قوله تعالى: “وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا” [النحل:65]، إشارة الى حياة الكائنات الحية المتواجدة في الكرة الأرضية من نبات وحيوان وغيره.
أما المحيا فلا تستعمل إلا لوصف لحياة الإنسان، كما ورد في قوله تعالى: “قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ” [الأنعام:162].
وفي المقابل نجد الموت المعنى الضدي للحياة والممات الضدي للمحيا.
وفي هذا الباب يبين الدكتور فاضل السامرائي كيف أن الزيادة في المبنى اللفظي يؤدي الى تعاظم المعنى، فعندما نجد الألفاظ : الخسر والخسار والخسران نحسبها مترادفات لمعنى واحد، لكن دلالة كل لفظة مختلفة.
فالخسر يعني مطلق الخسارة، كما جاء في قوله تعالى: ” وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ” أي في نقص سواء كانت خسارته من الكمال قليلة أو كثيرة، لكنه تعالى عندما قصد أن يبين الخسارة الكبيرة، أضاف الألف فصار مسماها (الخسار)، الذي هو أعظم نقصا من الخسر، كما في قوله تعالى: ” وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا ” [فاطر:39].
ولما أراد أن يبين الخسارة الكبرى التي لا تفوقها خسارة، أضاف الألف والنون الى الخسر فصارت (الخسران)، كما في قوله تعالى: ” خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ” [الحج:11]، ولزيادة التأكيد على عظم الخسارة، فقد ألحق لفظة (الخسران) أينما وردت بالصفة المميزة وهي (المبين) أي الجلي بلا جدال.
وهنا لا بد أن نتساءل عن الفرق في البناء المصدري بين العصيان والمعصية، وبين الغفران والمغفرة.
العصيان من الفعل (عصى) أي خالف ما أُمر به أو تركه على وجه العموم، وقد وردت (العصيان) في القرآن الكريم مرة واحدة: ” وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ” [الحجرات:7].
أما المعصية فقد وردت مرتين، وفي كلتيهما ارتبطت بمعصية الرسول، كما في قوله تعالى:” وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ” [المجادلة:8] .
والغفران والمغفرة مصدران من (غفر)، فالمغفرة تعنى المسامحة فيما هو حق، وهي عامة، قد تكون من الله أو من الناس بين بعضهم، لكن الغفران هو دعاء الى الله طلبا للمغفرة، وقد وردت مرة واحدة: “وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ” [البقرة:285].