لأولي الألباب
د. هاشم غرايبه
هنالك #قلق تراه منتشرا كثيرا بين صفوف #المؤمنين، مردّه شعور المرء بعدم تحقق الخشوع في صلاته، سواء في الفرائض أو النوافل، وقد يتمثل ذلك في شرود الذهن بسبب انشغاله بأمور ملحة ضاغطة أو حتى في التفاصيل الحياتية اليومية، أو بالسهو ونسيان في أي ركعة هو الآن.
بداية لا بد من التنويه الى أن #الصلاة تتميز بأنها الفريضة الوحيدة التي تؤدى يوميا، فيما باقي الفرائض موسمية، وقد جعلها الله تعالى هكذا لتكون للمؤمنين كتابا موقوتا، بمعنى أنها الضابطة لوقت المؤمن، والناظمة لكافة نشاطاته، لذلك فهي لا تسقط عن المؤمن إلا في حالات محددة معروفة.
لهذا فهي تصبح عند من يؤديها كواجب لا مفر منه، واحدة من الممارسات الروتينية المعتادة، لكن الله لم يردها هكذا، بل لكي تكون مَعْلما هاما ومميزا في الحياة اليومية، فتكون كل صلاة محققة لمتطلبات أدائها، وليست مجرد أداء حركات معينة، وأقوال محددة، بلا انعكاس في تمثل المعاني بالعقل، ولا تأثر الوجدان بها.
في واقع الحال، ليس من السهل الإيفاء بكل ذلك، كما أن أداءها بكل ذلك الإندماج للنفس في الجو المهيب الذي يقتضيه الوقوف في حضرة الله ومخاطبته مباشرة، قد لا يتحقق حتى للمصلي الحريص على هذه الصورة الرفيعة من الأداء، إلا لثوان أو لدقيقة، وسرعان ما يعرض في الذهن عارض دنيوي، فيخرج المرء من تلك الحالة الروحانية السامية، ثم يتذكر هذا الشرود فيعود ..وهكذا تنقضي الصلاة فيما المصلي يتنقل بين الحالين.
لا يعني شرود الذهن في الصلاة، ثم العودة الى استحضارها نقصا في الإيمان، لكنه نقص في الخشوع، فالإنسان لا سلطة له على تفكيره، والخشوع الكامل طيلة وقت الصلاة ليس في مقدور عامة المؤمنين، بل هو مقتصر على الأنبياء وعباد الله المخلَصين (الذين جعلهم خالصين من الهوى)، ويروى أن أحد الصحابة اراد الصلاة بخشوع تام، فلا يشغله شاغل دنيوي فيها، وعده رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه إن نجح بذلك سيهبه إحدى بردتيه، وعندما سأله بعد أن أنهى صلاته، اعترف بأنه رغم حرصه فقد شرد ذهنه برهة، إذ انشغل في التفكير في أية بردة ستكون له!.
من رحمة الله بعباده المؤمنين، وحتى لا يحملهم ما ليس بوسعهم، فقد أرشدهم لدعائه: “رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا” [البقرة:286]، ولذلك فلم يتوعد الذين يسهون في الصلاة، بل الذين يسهون عنها تقاعسا وتكاسلا، فلا يتذكرون إلا وقد فات وقتها “فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ . الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ” [الماعون:4-5].
الصلاة المثلى وصفها احد الصالحين فقال: “أن تجعل الكعبة بين حاجبيك، والميزان نصب عينيك، والصراط امام قدميك، والجنة عن يمينك، والنار عن شمالك، وملك الموت خلفك يطلبك، ولا تدري بعد ذلك أقبلت صلاتك أم ردت عليك”.
لذلك فأفضل وسيلة للخشوع هي صلاة المودع، وهي أن يعتبر المرء أنها قد تكون آخر صلاة متاحة له.
إن اهتمام المرء بصلاته، وقلقه من أن لا تقبل، هي من أهم سمات المتقين الذي سماهم رب العزة بأنهم مفلحون،
لذلك فلا يقلق هؤلاء، فإن كانوا لما يحققوا الفلاح بعد، إلا أنهم بإذن الله على درب الصلاح سائرون، ولا شك أن الله يعلم صدق نيتهم، فلن يترهم أعمالهم، وسيجزيهم أحسن ما كانوا يعملون.
وليطمئن المؤمن أنه حسبه أنه في رعاية الله وكنفه، ويكفيه أمانا أنه يدعو ربه في كل ركعة “إياك نستعين”، ونداؤه هذا بصيغة الجمع، ولا بد أن يكون من بين كل المصلين من هو مستجاب الدعاء، لذا يعم عطاء الله ورحمته الجميع.
هكذا نلاحظ أن الله لم يرد للناس بالإيمان إلا خيرا، فالمؤمن حياته كلها خير، فهو يملك تصريحا بالاتصال مع الله في أي وقت، وبلا واسطة من أحد ولا استئذان من أية جهة، ومن يدعوه قادر على فعل أي شيء، لا تعجزه كثرة الطلبات، ولا يضيق بالإلحاح وكثرة السؤال.
وحتى موته فيه خير أيضا، إذ هو ليس منقطع الرجاء كالكافر، بل موعود بعد موته وبعثه من جديد، بحياة ليس فيها ظلم ولا شقاء، وإن حرم في دنياه من أشياء، فسيجد في الآخرة أفضل بكثير مما كان ينعم به المتنعمون.