كلمات في الهواء غير الطلق / يوسف غيشان

كلمات في الهواء غير الطلق

كنا،نحن، شعب “اقرأ .. لكننا لم نعد نقرأ ، هذا متفق عليه ، لكن أن لا يعود للكلمة أي معنى وأي التزام لدينا، وتصير الكلمة مجرد فقاعة من الهواء!! هذه هي المعضلة التي علينا أن نفكر فيها ونحاول التملص منها ، لأننا إذا اذا بقينا على هذه الحال ، لن نجد من يصدقنا أو يتعامل معنا بنديّة واحترام ، في العالم أجمع، ولن نجد اطلاقا من يأخذنا على محمل الجد ، بل سوف يتعاملون معنا لكأننا شعب بدائي يعيش على هامش التاريخ الجغرافيا ومكانيكا الكم والكيف، وهذا ما ينبغي ان لا نرضاه لا لأنفسنا ولا لأولادنا وأحفادنا وأجيالنا القادمة.
عام 1988حصل إنقسام كبير بين مستشاري جورج بوش، خلال اعداد خطبة القبول التي كان سيلقيها في المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري ، كان محور الإنقسام بين المستشارين وعباقرة الإعلان والإعلام وجهابذة إدارة الحملات الإنتخابية ، هو مدى فعالية إضافة عبارة شعبية معروفة من أفلام هوليود ، كان يكررها باستمرا بطل افلام الآكشن كلينت إيستوود، وتحديدا في فيلم (هاري القذر) ، حيث كان إيستوود يكرر عبارة :(اقرأوا شفتي).
كان بعض المستشارين يريد أن ينحت عبارة جديدة، حيث يقول الرئيس:” اقرأوا شفتي…لا ضرائب جديدة”. ويدافع هؤلاء عن رأيهم بأن هذه العبارة الشعبية تؤدي لدى سامعها الى تفعيل شبكة عميقة من الإرتباطات الذهنية الموجودة مسبقا،(وهي ارتباطات ايجابية بالضرورة تعني الإلتزام التام والكامل بما يقول) .
المهم، ومن اجل ازالة اسباب التوتر والإختلاف بين المستشارين تم تلبيس هذه العبارة، وتجيررها في خطبة نائب الرئيس، وصارت في ما بعد من أشهر وأهم ما نطق به.
فيما يلي أنا لا ادافع اطلاقا عن بوش الأب ولا الإبن ولا روح أبليس ، لكني أحاول استعراض ماذا تعني تلك الكلمة هناك وما تستثيره من ارتباطات ذهنية لدى السامع الأجنبي، وما تفرضه من التزامات على قائلها هناك، في بلاد الفرنجة، وبين وما يمكن أن تستثيره لدينا نحن ، وما تفرضه علينا من التزامات(قال التزامات قال؟؟).
ما لنا وأبناء (الأصفر الممراض) حسب وصف (ابو تمام) في قصيدته المطولة التي يخلد فيها الإنتصار الوهمي للمعتصم خلال تحرير حصن صغير من الروم. نعود الى انفسنا ، ونسأل ، بكل براءة: ماذا يمكن أن تعني هذا الكلمة لدينا اذا سمعناها من براطم المسؤول؟؟
انها لا تعني شيئا على الإطلاق ، ولا تحمّل المسؤول العربي اية التزامات ، سواء اطلق وعودا سياسية ، بعدم التطبيع مثلا، أو اطلق وعودا اقتصادية بعدم المس(بالسين) بالأسعار، او اطلق وعودا اجتماعية بفرض الأمن والأمان وتعزيز دور المؤسسات والقانون داخل الدولة ، أو أطلق هواء فاسدا،…أو اي وعد يخطر في بالكم، الان أو في المستقبل المشرق.
اعتدنا منذ قرون ، وثبت في ذاكرتنا الجمعية ، بأن ما يقوله المسؤول هو عكس ما ينويه على الإطلاق ، وأن أخشى ما يخشاه المواطن العربي هو سماع المسؤول يعد بعدم زيادة الأسعار مثلا، لأن ذلك يعني زيادتها فعلا ، وأن الوعد بعدم التطبيع تعني تطبيعا كاملا شاملا ..وهكذا جرّي…!!
الكلمة عندنا لا تعني أكثر من نفخ الهواء بإيقاع معين، والإستعانة بالأوتار الصوتية واللسان وجدار الحلق، من اجل اكتمال المعزوفة التي لا تعني الا مجرد ظاهرة صوتية ، فقط لا غير .
لا تكلفوا أنفسكم عناء قراءة الشفاه ،فالمسؤول لا يلتزم ، والمواطن لا يطالبه بالإلتزام ، لأن القاري …والقاري واحد.
ghishan@gmail.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى