كبسلوا… نحن في #عصر_الكبسلة!
د. #فيصل_القاسم
أكثر ما يُضحكني في النظريات الماركسية والشيوعية والاشتراكية عموماً أنها أعطت للشعوب حجماً وقيمة وأهمية أكبر من حجمها الحقيقي بكثير، فالماركسيون مثلاً لطالما تغنوا بالبروليتاريا وقوة البروليتاريا وتأثيرها في حركة التاريخ وصنعه. وقد وصل الأمر بهم إلى القول مثلاً: «لو لم يكن نابليون موجوداً لصنعت الجماهير شخصاً آخر بحجم نابليون ليغير التاريخ كما غيره نابليون».
بعبارة أخرى، فالنظرية الماركسية لا تعطي للأشخاص أهمية كبرى في صنع التاريخ، بل تعتبرهم مجرد أدوات في أيدي الشعوب، وهي برأيهم الصانع والمحرك الحقيقي لعجلة التاريخ. لكن الزمن الذي نعيشه اليوم جعل من نظريات ماركس وغيره من الشعبويين أضحوكة. لماذا وكيف؟
ببساطة لأن هناك أمامنا منذ عقود وعقود ألف دليل وبرهان على أن الشعوب مجرد عتلات تستخدمها الطبقات العليا ومن يسميهم توماس كارلايل بالأبطال الذين يقودون القطعان ويحركونها ويستخدمونها كيفما يشاؤون حسبما تقتضي مصلحتهم. نحن باختصار مجرد عجينة في أيدي صانعي التاريخ والحياة بشكل عام، يصنعون منها شكل الخبز الذي يريدون. نحن بلا حول ولا قوة، نحن مواد أولية لا أكثر ولا أقل في لعبة أكبر منا بكثير. وكي لا نذهب بعيداً، فنحن صنيعة الأنظمة السياسية والدينية والتربوية والتعليمية والثقافية التي وضعتها الحكومات، ومهما حاولنا التحرر من تلك الأنظمة نبقى عبيداً في أيديها، فما بالك إذا كانت بعض الأنظمة كالنظام الأمريكي مثلاِ تملك كل وسائل التطويع والتوجيه والتعبئة بكل أشكالها، كما تملك أيضاً أعظم أنواع التكنولوجيا التي صنعها الآن، بالإضافة طبعاً إلى الرصيد المالي القادر على التحكم بكل الدول والأنظمة دون استثناء وتركيعها وتطويعها في الاتجاه الذي يريده سادة العالم، فما بالك إذاً بالشعوب المغلوبة على أمرها التي لا تستطيع أصلاً الخروج من القوقعة التي وضعتها فيها أنظمتها الدائرة في الفلك الأمريكي خصوصاً والغربي عموماً؟ وكي لا نسهب، فنحن لسنا أكثر من عتلات صغيرة في المجتمعات التي يصنعها الكبار ويطورونها ويغيرونها حسب مصالحهم باستمرار. وإذا كانت الأنظمة الوكيلة قادرة على نقل الشعوب بين الحين والآخر من دين إلى آخر، حسبما تفرضه مصالح مشغليها وموجهيها الكبار، فإن الكبار أنفسهم هم الذين، في واقع الأمر، يتحكمون بكل المجتمعات والبشرية جمعاء ويفرضون عليه أسلوب الحياة والعيش الذي يناسبهم ويخدم توجهاتهم.
تلعب التكنولوجيا الدور الأكبر بجانب الاقتصاد في عملية قولبة الإنسان وتسييره وتوجيهه وتشكيله، فهو مهما تطور يبقى مجرد فأر تجارب في أيدي أصحاب الاقتصاد والتكنولوجيا والمال
وكي لا نغمط ماركس حقه في كل شيء، لا بد أن نستذكر هنا نظريته الصائبة التي تقول إن الواقع الاقتصادي هو الذي يحدد ويصنع الواقع الاجتماعي، أي أن كل شيء مرتبط بالاقتصاد وطرق الإنتاج والاستهلاك، فهي التي تصنع وتقوّلب الإنسان حسب مصلحتها. واليوم تلعب التكنولوجيا الدور الأكبر بجانب الاقتصاد في عملية قولبة الإنسان وتسييره وتوجيهه وتشكيله، فهو مهما تطور يبقى مجرد فأر تجارب في أيدي أصحاب الاقتصاد والتكنولوجيا والمال. اليوم مثلاً نحن نعيش اليوم في عصر ما يُسمى بالكبسلة، كل شيء يحولونه إلى كبسولة صغيرة. كل شيء كبير يجب أن يختصر من حجمه كي يناسب المزاج العام. الموبايل مثلاً اختصر الراديو والتلفزيون والمسجلة والطابعة والكاميرا والميكروفون والتليفون والكثير من الأجهزة في جهاز واحد. تاريخ الإنسان كله وسجلاته ستصبح بحجم حبة الأرز مزروعة في جسده.
واليوم إذا جاءنا فيديو أطول من نصف دقيقة نعتبره طويلاً ومملاً. وكل منشور على مواقع التواصل يزيد عن سطر ونصف نراه طويلاً. وقد جاء موقع «تويتر» (أكس) ليفرض على الكاتب أن يكبسل أفكاره المتشعبة بجملة أو اثنتين. وعندما نكتب مقالاً اليوم يزيد عن خمسمائة كلمة نعتبره طويلاً، ولن يقرأه إلا القلة. من يقرأ اليوم الكتب في عصر المنشورات القزمية؟ من يقرأ حتى المقالات القصيرة؟ وحتى الجرائد التي مازالت تصدر ورقياً فقدت نصف حجمها. من يشاهد اليوم فيلماً وثائقياً أو برنامجاً تلفزيونياً حتى آخره إلا إذا كان غاية في المتعة والتشويق؟
وبما أنه ليس بأيدينا أو مقدورنا أي شيء سوى استهلاك أنماط وأساليب الحياة المتجددة دائماً المفروضة علينا بقوة التكنولوجيا والاقتصاد، وخاصة في العقود القليلة الماضية التي تقدمت خلالها البشرية أكثر مما تقدمت على مدى قرون ماضية، فلا يسعنا إلا أن نطرح الأسئلة وعلامات الاستفهام والتعجب حول هذا التطور الرهيب الذي تخضع له البشرية شاءت أم أبت. أين نحن ذاهبون؟ ومن المستفيد الأكبر من هذه التحولات العلمية والتكنولوجية المدهشة؟ وما هو مستقبل العالم أجمع في ظل طوفان الكبسلة الذي يحاصرنا من كل حدب وصوب؟ هل سنأكل ونستهلك كل شيء في المستقبل على شكل كبسولات؟
أعتذر لكم شديد الاعتذار عن المقال، فهو طويل جداً جداً. أليس كذلك؟ نعم قد يبدو لكم كذلك، لكنه في الواقع أقصر من مقالاتي السابقة بحوالي ثلاثمائة كلمة احتراماً لعنوان وموضوع المقال.
كاتب واعلامي سوري
falkasim@gmail.com