بقلم: أنس معابرة
كثيرة هي المواقف التي نتعرض لها يومياً وتتطلب منا قراراً حاسماً في موضوع قد يكون له شأن كبير في حياتنا، حتى وإن كان هذا الأمر بسيطاً أو إعتيادياً، فلا بد من البدء في تشغيل حواس الجسد المختلفة وفي مقدمتها العقل، للخروج بالقرار الصائب وتحقيق أكبر قدر من المكاسب مترافقاً مع القدر الأدنى من الخسائر.
صحيح أن العقل هو الميزة الإيجابية التي ميز الله بها الإنسان عن سائر مخلوقاته، وبها أعطاه القدرة على التفكر والتدبر والإبتكار الذي حث الله الإنسان عليه، كالتدبر في الكون والشمس والقمر والسماء والكواكب، بل حتى في جسد الإنسان ذاته؛ فهو يحتاج الى الكثير من التفكر في مجموعة الأجهزة الحيوية الدقيقة المعقدة والتي تعمل الى جانب بعضها البعض دون كلل أو ملل، وكذلك دعاه خالقه عز وجل للتفكر في المجتمعات الحيوانية كالنحل والنمل والطيور والأسماك، وإيجاد الآيات الكثيرة التي تحتاج الى وقفات تأملية عميقة، ولكن لا بد من الإدراك بأن مهام العقل لا تنحصر في التدبر والتفكر فقط.
فالعقل هو سبب إستخلاف الله للإنسان على الأرض، ولو غاب العقل عنه ما عاد قادراً على آداء مهمته في تعمير الأرض وإصلاحها، من خلال العقل تمكن الإنسان من التوصل الى القفزات الثلاث الكبيرة الى عملت على تطور الإنسانية ورقيها والتي يمكن إعتبارها بأنها محطات مهمة جداً في تاريخ الإنسانية، توصل في البداية الى الزراعة التي مكنته من الاستقرار في أماكن معينة بإنتظار المحاصيل، وإختيار أصناف بعينها من الأطعمة لتتوسع قائمة طعامه، ثم توصل بعد ذلك الى إكتشاف النار، والتي ساعدته في الدفاع عن نفسه امام الحيوانات المفترسة، وساعدته كذلك على ضم أنواع جديدة الى قائمة طعامه من خلال عملية الطبخ لبعض الأصناف كاللحوم بأنواعها وبعض لأنواع الخضروات التي لم يتقبلها نيئة، ثم توصل ثالثاً الى إختراع الكتابة، التي عملت على توثيق الأحداث التي مرت بها الأمم من النشأة حتى الهلاك، ولتصبح طريقة التواصل والتدوين بين الأمم منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا.
العقل هو وسيلة الإختراع والإكتشاف والتطوير، من خلاله عرفنا علاج الأمراض ومسبباتها، وإيجاد الأدوية والأمصال المناسبة للقضاء عليها أو تخفيف حدتها، وتطور علم الحاسوب والإتصالات ووصل الى الأقمار الصناعية والإنترنت وأحدث وسائل التواصل، وتطور علم المواصلات بعد أن كانت القدمين هي الوسيلة الوحيدة، لتصبح الحيوانات لاحقاً ثم العربات التي تجرها الدواب، وبعدها تحققت القفزة الكبيرة من خلال الثورة الصناعية وإختراع المحرك الكهربائي لنصل الى السيارات، والقطارات والطائرات، اليوم نتحدث عن طائرات أسرع من الصوت بعدة مرات، وعن قطارات تتجاوز سرعتها 600 كيلومتر في الساعة، وتنوعت أدوات التكنولوجيا في حياتنا وأعمالنا لتقلل من الجهد والوقت اللازمين لإتمامها في مجالات متعددة كالصناعة والزراعة والخدمات، وكله بفضل العقل.
العقل هو وسيلة التمييز بين الصحيح والخطأ، وبين الحق والباطل، بل حتى إن العقل لقادر على التمييز بين الصحيح والأصح، وتفضيل بعض الخيارات على بعض إعتماداً على الخلفيات الثقافية والمشاهدات العينية والتجارب السابقة.
العقل هو مصدر الحكمة في الأقوال والأفعال، والتي تحتاج الى التفكر والتبصر في الأمور، بالإضافة الى التجارب الكثيرة للوصول الى مستويات مرتفعة من العلم والإدراك وبالتالي الحكمة، والعقل هو ذاته من كان سبباً في تخليد ذكرى العديد من المفكرين والأدباء والحكماء عبر العصور المختلفة، نظراً الى تميزهم عن غيرهم بالعقل والحكمة والوعي.
إن من يهمل إستعمال عقله، أو يستعمله في غير مكانه لا يختلف كثيراً عمن لا يملكه من الأساس، بل قد تجد العذر لمن فقد عقله على تصرفات حمقاء، ولكنك لا تجد بُداً من لوم من يملكه ولم يحسن إستعماله في ذات الوقت. فالله عز وجل رفع التكليف عمن فقد علقه، ولم يؤاخذه بما يفعل كما تنص القاعدة الشرعية بأن الله إذا أخذ ما أوهب، فإنه يسقط ما أوجب.
أما أولئك الذين يملكون من العقل ما هو قادر على تدبير شؤون أمم، ولا يستغلونه إلا تطوير وسائل التدمير والتخريب والتجسس، وبث بذور الفرقة والدسائس والمؤامرات، فعلى الرغم من ذلك العقل إلا أنهم لا يعقلون.
العقل هو أساس علم المنطق الذي نعتمد عليه كثيراً في حياتنا، بل نلجأ اليه أولاً إذا ما واجهتنا أية مشكلات في عمليات التغيير التي تحيط بحياتنا وتعصف بها، ويكون هو الفيصل النهائي امام الموروثات الثقافية والدينية والأخلاقية والعرقية، بل والعادات والتقاليد أيضاً.
ولكن يجب الإدراك أيضاً بأن هناك مواضيع لا يتم إخضاعها للعقل والمنطق فقط، بل كثيرة هي المواضيع التي نتبعها في حياتنا ولكنها تخالف العقل والمنطق مخالفة صريحة واضحة، فهل يقبل العقل بالتصدق على الفقراء بينما أنت في حاجة الى تأمين مستقبلك ومستقبل أولادك؟ وهل يقبل العقل والمنطق بمبدأ تقديم إحتياجات الآخرين على النفس أو ما يعرف بالإيثار؟ هل يقبل العقل بما فعله أو بكر بأن تصدق بكل ماله في غزوة العسرى، وجاء عمر بنصف ماله؟ بل هل يقبل من الأساس تلك المؤاخاة التي حصلت بين المهاجرين والأنصار ليتدافع الأنصار الى إقتسام ثرواتهم مع أشخاص كانوا يجهلونهم بالأمس، وأصبحوا اليوم يؤثرونهم على أنفسهم؟ إذا كانت تلك الأمثلة تخص الصحابة رضوان الله عليهم وهو كما يعتبرهم الكثيرون بأنهم خارقون للعادة نتيجة للتربية النبوية التي أحاطت بهم، ولكن هل من المنطق أن تفني الام اوقاتها، بل وتعرض حياتها للخطر أحياناً من اجل مصلحة أولادها؟ ما هو السر وراء الأمومة التي تدفع الأم لتحمل مشقات الحمل والولادة والتربية؟ وما الذي يحرك عاطفة الأبوة التي تجعل من الأب خادم مخلص لأبنائه؟
إذا كنا نتبع المنطق فقط، فسيكون الجواب على جميع الأسئلة السابقة بالنفي لأنها تخالف المنطق من الأساس، وهنا يبرز مصطلح جديد يعرف بالعاطفة والتي محلها القلب، والتي تشكل جنباً الى جنب مع العقل الركائز الأساسية لبناء الشخصية الإنسانية، والمراجع الرئيسة في حال إتخاذ القرار، ويعود لهما معاً الفضل في تحديد سلوك الإنسان وتصرفاته ونجاحه وإخفاقه. قد ينشأ بين العقل والقلب في بعض الأحيان صراع داخلي من اجل تحديد قرار مصيري أو مستقبلي، العقل يرتكز على الحقائق الأساسية وعلم المنطق ويتخذ قراره بشكل مباشر دون أية إعتبارات عاطفية أو صلة قربي أو مراجع دينية أو حتى أنظمة قانونية في بعض الأحيان.
ولكن القلب يأخذ بقرار العقل ثم يخضعه الى مجموعة من المؤثرات العاطفية، فيطرح على العقل مجموعة من الأسئلة بغرض التأثير عليه ومحاولة تغيير القرار، والتأكد من أنه يوافق القلب أيضاً، فتكون الأسئلة على شاكلة: هل ما سأقدم عليه حلال أم حرام؟ ولكن إذا رفضت أنا دعمه فمن له، هل سيكون من العيب القيام بهذا؟ ألا يوجد في هذا التصرف قسوة قلب أو أنانية؟ ماذا سيفعل فلان أو فلان لو كان مكاني، يل ماذا سأفعل أنا لو كنت مكانه؟ وهكذا.
دراسة علمية حديثة أكّدت حقيقة هذا الصراع وتقول الدراسة: إنَّ الدماغ البشري يخوضُ نزاعاً دائماً بين مركز العاطفة ومركز العقل، فهنالك منطقتين في الدماغ تتنافسان للتحكم بسلوك شخص ما على وشك اتخاذ قرار بين إشباع العاطفة الفورية وتحقيق الأهداف البعيدة المدى بمركز العقل.
لو سألت الناس من حولك أيهم يستحق السيطرة على قراراتنا العقل والمنطق أم القلب والعاطفة؟ ستلاحظ أن الغالبة منهم يفضلون العقل على القلب، بل إن العديد منهم قد إنغمس بشكل كبير في ماديته التي قضت على ما بقي فيه من العاطفة. أما الأشخاص العاطفيون، فهم يميلون الى إتخاذ القرارات تحت إشراف القلب فقط مهما ترتب على ذلك من خسائر، بل إن البعض قد يتخذ قرارات عاطفية من أجل إشباع رغبة النفس في الإطمئنان والراحة، وسيشعر بعذاب الضمير والقلق والأرق وربما الندم في حالة مخالفة القرار العاطفي واللجوء الى المنطق فقط.
إن الإنسان المدرك الواعي والناجح هو الإنسان القادر على الموازنة بين طرفي الرحى من القلب والعقل للوصول الى الحالة الوسطية المثلى، والذي يتم فيها الإعتماد على الأسس المنطقية، بالإضافة الى مراعاة الجانب العاطفي ومتطلبات القلب، بما يضمن تحقيق الهدف دون خسائر جسيمة.
في مجالات السياسة يسيطر العقل على الأجواء، ولا يكون للقلب مجال للتدخل أبداً، أما في حالة الحروب فيكون القلب هو المسيطر بلا منازع، بل ربما قد تجد نفسك تتعاطف مع الطرف الضعيف الذي ربما يكون هو المخطئ، وكذلك في مجال الحب والزواج؛ فيجب أن يضل العقل وقراراته خارج الحسبان لضمان نجاح العلاقة الزوجية.
وعلى الرغم من قوة العقل والمنطق في حسم القرارات في أغلب الأحيان؛ إلا أنَّ العواطف قد تكون أكثر قوة أحياناً في بعض المجالات، وخاصة في موضوع الإقناع، إذ أنها تعتبر القوة الوحيدة الفعّالة هنا، وبما أننا كائنات حية مفكرة، فإننا نودّ أن نرى المنطق وراء معظم قراراتنا؛ لكنَّ الواقع هو أنَّه في معظم المواقف التي تستدعي إقناع الآخرين؛ يستخدم الناس العاطفة ويبررونها بالحقائق، فقد يتم إقناع الناس بالعقل، بينما العاطفة هي التي تحركهم. وهنا يظهر خطر التلفاز ووسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي أيضاً، فأنت كمتابع للأخبار ترجو أن تستقي الأخبار الحقيقية من وسائل الإعلام، وبالتالي تتوقع أن تشاهد وتسمع منهم حواراً منطقياً خالصاً، ولكن في الحقيقة ستجد أن وسائل الإعلام ستقوم ببث مجموعة من الرسائل العاطفية خلال نشرة الأخبار بحيث تعمل على إستعطاف قلبك أولاً، ثم الوصول الى تغيير وجهة نظرك ثانية بعد صراع مع العقل، وبالتالي قد تصل تلك الجهات الإعلامية الى ما يسمى ب “إستمالة الرأي العام” لصالح قضية معينة.
يقول “هاري ميلز” مؤلف كتاب “فن الإقناع” إنَّ العاطفة تتفوق على المنطق بعدة مزايا؛ أبرزها أنَّ العاطفة تؤدي إلى تغيير السلوك بشكل أسرع مما يفعل المنطق، كما أنَّ العاطفة تتطلب مجهوداً أقل مما يتطلبه المنطق لذلك فإنها في هذا الموضع ستكون أكثر تأثيراً، وذكر أيضاً بعض الأمثلة على ذلك من بعض الأحداث العامة الكبرى التي حركت مشاعر العامة في أنحاء العالم ومنها دعوة “مارتن لوثر كينغ” بالمساواة بين البيض والسود في أغسطس عام 1963 بخطبته الشهيرة “لدي حلم”، حيث كان للعاطفة الدور الأقوى، والحروب الصليبية التي شنتها أوروبا على الشرق كانت قائمة على العاطفة الدينية التي استغلها الرهبان في خطاباتهم الترويجية للحرب، بل إن يعض مرشحي الرئاسة الأمريكي قد يلجأ لإستخدام العاطفة لإستمالة الناس الى جانبه في الانتخابات والتصويت لصالحه.
مهما واجهك في الحياة من المواقف التي تتطلب قراراً، حاول ان تراجع كافة جوانب المنطق والعقل، ثم أخضع قراراك الى العاطفة ليتم التأكد من موافقة القرار الى المبادئ التي أخترتها مسبقاً لتقوم عليها حياتك، وفي النهاية يجب ان تقبل القرار الذي توصلت اليه مهما كانت النتائج، فالصراع بين العقل والقلب لن يتوقف أبداً، فحاول أن تجعل من ذلك الصراع تعاوناً للوصول الى القرارات السليمة دائماً.