#قانون #البركة
بقلم: م. أنس معابرة
البرَكة إصطلاحاً هي الكثرة والزيادة، وقد يختلف البعض على موضوع البركة من حيث التعريف والتفاصيل، فالبعض يعتقد بأنها لا تتعدى المجال الروحي فقط ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تصل الى الجانب المادي أو أن تلاحظها فيه، بينما من عاش شكلاً واحداً أو أشكال متعددة من البركة خلال حياته فهو على إستعداد تام لإثبات الوجود المادي للبركة في حياتنا. فهل يقتصر وجود البركة إذا إتفقنا على وجودها أصلاً في المجالات الروحية فقط؟ أم ان البركة موجودة فعلاً ويمكن الإحساس بها مادياً أيضاً؟
عبر تاريخنا الإسلامي ومن خلال سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ورد ذكر العديد من الحالات التي تدخل بها النبي عليه الصلاة والسلام لإحلال البركة والتكثير في الطعام أو الماء، كحادثة غزوة الخندق حين أكل ما يقارب ألف شخص من شاة صغيرة والقليل من الشعير المخبوز، وفي حادثة غزوة تبوك حين فني الزاد واقبل المسلمون على ذبح الرواحل لتجنب الموت جوعاً، أما قصة ام معبد الخزاعية التي مر عليها النبي في يوم الهجرة فهي أبهى صور البركة المخالفة للطبيعة، والتي دفعت المرأة العجوز وزوجها الى الإسلام والتسليم بأن ما حصل معهم وأمامهم ما هو إلا شكل من أشكال المعجزات، ولا يأتي بها إلا نبي فقط.
جابر بن عبد الله صحابي جاء يشكو للنبي كثرة الدين، فلما جاء موسم الحصاد وجمع التمر دعا له النبي، فسد جميع ديونه وزاد معه المال، وموقف أبو طلحة كذلك حين دعا النبي العشرات الى الطعام القليل دون أن ينقص الطعام، وحكاية أو هريرة وأهل الصفة مع قصعة اللبن معروفة للجميع أيضاً ويمكن الإطلاع على تفاصيل جميع ما سبق من المواقف.
من الصعب أن نأتي على جميع الأمثلة الواردة من السيرة النبوية على البركة، التي عملت على تكثير الطعام أو الماء ليكفي العشرات والمئات في بعض الأحيان، ولكن ما نتفق عليه في جميع تلك الروايات بأنها معجزات مخالفة للطبيعة، تدخل فيها النبي مصحوباً بالقدرة الإلهية القادرة على كل شيء. وفي نفس الوقت قد يمنّ الله على من بشاء من عباده الصالحين الأولياء بقدرات مماثلة، قد تكون واسعة أو محدودة، ولكنهم أيضاً حالات خاصة لا يمكن التعميم عليها في المجتمع.
فكيف إذا يمكن أن يحس أفراد المجتمع العاديون بالبركة؟ نحن عباد الله المقصرين الذين لم نبلغ مراتب الأنبياء أو الأولياء، فهل نحن محرومون من البركة؟ ألا يمكن أن يجد المسلم العادي أي جانب من جوانب البركة في حياته؟
في الحقيقة إن البركة موجودة في العديد من جوانب حياتنا اليومية، ونعيشها ونستفيد منها دون الإحساس بها، وسيكفينا في هذه المرحلة المقارنة بين شخصين لإدراك البركة التي تحل على أحدهم.
لو كان لدينا شخصان، كلاهما يعملان في نفس الشركة، ولنفس ساعات العمل، ولديهم نفس عدد أفراد الأسرة، ويتقاضون المبلغ نفسه في نهاية الشهر، الأول يبدأ يومه من صلاة الفجر، ثم يعود الى المنزل ليقرأ أذكار الصباح أو ورده اليومي من القرآن الكريم، ويتناول طعام الإفطار الى جانب أولاده، وينطلق الى عمله بينما ينطلق الأولاد الى مدارسهم عبر الحافلات ووسائل النقل العام. بعد الظهر يعود من عمله ويتناول طعام الغداء مع الأطفال والزوجة، ويصلي العصر، يراجع دروس الأولاد بالإشتراك مع زوجته، ربما يذهب أحياناً في نزهة مسائية مع الأسرة، أو صلة للرحم، أو عيادة لمريض، أو تفقد لأحوال الجيران، وبعد العشاء يجلس مع أسرته الى أن يحين موعد النوم الذي لا يتجاوز العاشرة مساءً بحده الأقصى.
ربما تلاحظون بأن المثال أعلاه هو مثال لشخص عادي جداً، قد تجد أن الكثير من أبناء الحي من حولك لهم نفس البرنامج، وبالتي لا يحتوي لا أية سمة خارقة للعادة، أو عبادة مبالغ بها، وهو ما يدفعنا الى مطالعة برنامج الشخص الثاني.
هذا الشخص مبتلى بمتابعة مباريات كرة القدم، وهي كمثال فقط، فربما يعشق ألعاب البلاي ستيشن، أو السهر على المقاهي مع بعض الأصدقاء، أو مشاهدة الأفلام وزيارة دور السينما، وبالتي تتطلب منه هوايته السهر الى أوقات متأخرة، تتجاوز منتصف الليل في الغالب، وبالتي أضاع صلاة الفجر مع الجماعة في المسجد، لأنه يستيقظ متأخراً كل يوم تقريباً وكذلك الأولاد، ولا يجدون الوقت الكافي لتناول الإفطار في البيت، فيكتفون بالشراء من المدارس أو كافتيريا الشركة، وبما انهم قد تأخروا جميعاً فسيضطرون الى ركوب تاكسي لان الحافلة ستتسبب في تأخرهم عن دوامهم, بعد الظهر يعودون الى المنزل، يتناولون طعام الغداء ويشعرون بالإرهاق من السهر لساعات متأخرة ليلة أمس، ينامون بعد الغداء لعدة ساعات، تزدحم مفكرة الأحداث في المساء، فالوقت لا يكفي لمراجعة دروس الأولاد، ولا لزيارة أحد الأقارب، ولا لنزهة عائلية بعد أن ضاع أغلبه في النوم، ثم يبدأ الإستعداد لسهرة اليوم مع موعد مباراة كرة القدم، أو نداء الأصحاب على طاولات المقاهي.
وربما تلاحظ ايضاً بأن هذا البرنامج موجود بكثرة، ويتبعه العديد ممن هم حولك إن لم تكن نفسك. ولكن السؤال الأهم هو: ما علاقة البركة فيما تم ذكره حتى الآن؟
لو تحدثنا عن البركة في العمر، أو البركة في الوقت، لوجدت أن الشخص في المثال الأول قد وجد وقتاً للصلاة والأذكار وقراءة القرآن والعمل والجلوس مع العائلة ومراجعة دراسة الأولاد بتأن، وزيارة قريب أو عيادة مريض، وتواصل مع الجيران، وبالتالي قد منحه الله بركة في وقته لقضاء جميع تلك الأعمال.
بينما صديقنا الثاني، لم يجد وقتاً للعديد من النشاطات التي قام بها الأول، بل كثيراً ما نسمع عن تذمر الناس من ضيق الوقت، وعدم القدرة على تأدية الواجبات والمتطلبات اليومية، وربما قد ينظر البعض الى برنامجه الطويل المرهق خلال اليوم، وحين يتفكر في برنامجه سيجد أن القيمة الحقيقية لهذا البرنامج هي صفر، كصاحبنا الثاني تماماً.
وإذا أردنا أن نتحدث عن البركة في الرزق، ومع إفتراض أن كلاهما له الدخل نفسه مع نهاية كل شهر، فستجد أن الأول يعتمد على الفطور في المنزل له وللأطفال، ثم الإستيقاظ الباكر منحه الوقت اللازم لإستخدام وسائل المواصلات العامة، وكذلك متابعته الحثيثة لدراسة اطفاله ومنحهم الوقت الكافي جعلهم من المتفوقين في الدراسة، ودون الحاجة الى الدروس الخصوصية، وأصبحت دراستهم في الجامعة أسهل وأقل تكلفة.
أما الشخص الثاني؛ فيحتاج وأطفاله يومياً الى مبلغ لشراء الفطور، وسيتكبد مبالغ محترمة لسيارة التاكسي لأنه إستيقظ متأخراً، وربما يدفع نفس المبلغ أثناء عودته لأنه يشعر بالتعب ولا يقدر على مطاردة المواصلات العامة، وربما كان ممن يدمنون التدخين، وبالتالي يحتاج الى مبلغ كبير من المال شهرياً من اجل نفقات تلك العادة السيئة، وتقصيره في متابعة دروس أطفاله دفعه الى إحضار المدرسيين الخصوصيين الذين سيكلفونه شهرياً مبلغاً كبيراً، ووجب الإستعداد للدراسة الجامعية الخاصة التي تتطلب المبالغ الضخمة.
إذا ما تمت المقارنة بين الشخصين، ستجد في نهاية الشهر أن الشخص الأول قد فضل معه بعض المال ليقوم بتوفيره من اجل المستقبل، أما الشخص الثاني؛ فبالكاد يكفي راتبه لمنتصف الشهر، ثم يبدأ في الإستدانة من الزملاء والأقارب، ليدخل في أزمة مالية لن تنجلي إلا بعد أن يعمل على تغيير برنامجه اليومي وتعديل أوتار حياته.
قد يجد الشخص الأول البركة في صحته نتيجة للاستيقاظ مبكراً والإفطار المنزلي، والمشي الى مجمع الحافلات، ومن والى المسجد في الصلوات المختلفة، بينما كسل الثاني وتقصيره، والسهر لأوقات متأخرة، وإدمانه على عادات سيئة كالطعام الجاهز من المطاعم أو التدخين قد يعود على جسده بالمشاكل المتعددة كالسمنة وتصلب الشرايين والسرطان، والسكر والضغط وغيرها من المشاكل الصحية عافانا الله وإياكم منها، وكل هذا نتيجة لمخالفته لقوانين الطبيعة التي جعلت من الليل لباساً من النهار معاشا.
قد يجد الأول بركة في الحب، فزوجته تحبه لأنه متعلق ببيته، يبدا صباحه بذكر الله فيه، ويكون الى جانبها في تحضير الإفطار، وكذلك في متابعة دروس الأطفال، والنزهة العائلية تعمق من أواصر الحب بين الزوجين والأبناء. وسيجد الحب من أطفاله على الاهتمام الزائد، والنزهات العائلية وغيرها، وسيجد الحب من جيرانه وأقاربه وأصحابه، فهو دائم التواصل معهم، يصادفهم عند خروجه للعمل أو أوقات الصلاة، ويطمئن على أخبارهم وصحتهم، ويعود مريضهم، ويهنئ ناجحهم.
الشخص الثاني لا يجد بركة في الحب أبداً، فهو مكروه من زوجته وأولاده، يستيقظ متأخراً بوجه عابس، ويخرج من المنزل على عجل، لا يحيّي أحداً في طريقه، ولا يلقي السلام على جيرانه نظراً لتأخره، وفي المساء يعود للنوم ثم الإستعداد لممارسة هوايته المسائية مهما كانت، فلا جلسات أسرية، ولا نزهات عائلية. وهو مكروه منبوذ من مجتمعه وجيرانه وأقاربه أيضاً، فلا يتابع أخبارهم، ولا يطمئن على أحوالهم، ولا يزور أهله وأرحامه، بإختصار؛ هو شخص يعيش لنفسه فقط، فكيف سيجد بركة الحب.
قد يجد الأول البركة في العلم والفهم، فالإستيقاظ المبكر بعد النوم لساعات كافية يساعد على تفتح خلايا المخ لإستيعاب المزيد من المعلومات، فلقد بارك الله لهذه الأمة في بكورها، وسيساعده ذلك على آداء مهام عمله بتميز وإتقان، مما قد يرشحه للحصول على ترقيات ومكافآت وبالتالي زيادة الدخل، وحين يراجع دروس الأولاد سيجد الطريقة المثلى لتوصيل الأفكار لهم، ولشرح الدروس بسلاسة ويسر.
أما الثاني فيستيقظ متأخراً وقد تم توزيع الأرزاق، وقد خُتم على عقله فلا يستوعب شيئاً، مما يدفعه الى إرتكاب العديد من الأخطاء أثناء العمل والحصول على عقوبات تؤدي الى تقليل الدخل وزيادة الصعوبات التي تقابله.
على الرغم من تشابه الظروف الأساسية لكلى الرجلين في المثال السابق، إلا أن ظروف حياتهم كانت مختلفة كلياً، تفاصيل صغيرة كانت كفيلة بتحويل حياة أحدهم الى نعيم والأخر الى جحيم، أحدهم حصد الكثير من الحسنات الدينية والدنيوية، وجد الوقت والحب والرزق والصحة والفهم، والثاني حُرم من ذلك كله، ووجد حياته في إنحدار متواصل نحو الهاوية، والتي ستصل في النهاية الى الطلاق أو إنفصال الأولاد عنه وإبتعادهم فكرياً وجسدياً.
خلاصة القانون:
يجب أن ندرك أن البركة موجودة، ويمكن للشخص العادي في حياته ودينه أن يحس بها ويدرك تلك الفائدة العظيمة التي تعود بها، ولا يحتاج الامر الى الشخص العابد المتفاني في عبادته ليدرك البركة الحاصلة في وقته ورزقه وصحته وحب الناس له، بل يجب عليك أن تنظر دائمأ الى تلك النعم التي تتوفر بين يديك اليوم، وتتذكر بأنها كانت أمنيات لك بالأمس، وما حصلت عليها إلا ببركة حلت عليك، كل ما عليك في هذه الحالة أن تشكر الله عليها لكي تدوم، ويكافئك الخالق بغيرها في قادم أيامك.