سواليف
استيقظ قبل ميعاد عمله بـ3 ساعات، نظر إلى سيارته التي لم يسمع صوت محركها منذ وقت طويل، ثم قام بتوديعها وبدأ رحلته الشاقة إلى مقر العمل، ولكن بدونها. تغير شكل الحياة في مدينة العريش المصرية عاصمة محافظة شمال سيناء والمناطق المجاورة لها، منذ إعلان القوات المسلحة عن “العملية الشاملة سيناء 2018″، في 9 فبراير/شباط 2018 التي تستهدف محاربة الإرهاب. شيئاً فشياً اختفت البضائع من الأسواق، وشحّت السيارات من الشوارع بسبب توقف محطات الوقود، التي تعطلت بالتزامن مع الحملة التي يقودها الجيش، والتي أدت إلى توقف الطرق الرئيسية المؤدية إلى المدينة، ومنع دخول أغلب البضائع على رأسها الوقود، فاضطر الأهالي للاستغناء عن استخدام سيارتهم الخاصة واللجوء لوسائل بديلة كالـ”الدراجات الرياضية والحمير”. فقد تم فرض قيود صارمة على حركة الأشخاص والسلع في جميع أنحاء محافظة شمال سيناء تقريبا، حسبما ذكرت منظمة هيومان رايتس واتش في تقرير لها في أبريل/نيسان 2018. ونقل التقرير عن السكان قولهم إنهم السلطات حظرت بيع أو استخدام البنزين للمركبات في المنطقة، وقطعت خدمات الاتصالات أحياناً لعدة أيام متواصلة. وأدت هذه الإجراءات لعزل محافظة شمال سيناء عن البر المصري وأثرت على تدفق البضائع من القاهرة والوادي، وأصبح الجيش المصدر الرئيسي للغذاء، إذ يوزع بعضه مجاناً ويبيع الباقي. لكن السكان المحليين قالوا إن الكميات المتوفرة لا تلبي الاحتياجات الحالية، حسب تقرير المنظمة.
الحياة تتوقف في مدينة العريش بعد الخامسة.. والأهالي يلزمون منازلهم
تتوقف الحياة تماماً في مدينة العريش في الساعة الخامسة مساء، وذلك حتى قبل الموعد المحدد لحظر التجوال بنحو 7 ساعات. فالسيارات المعدودة التابعة للمحافظة المخصصة لخدمة المواطنين تدخل “مرآب السيارات”، بينما تغلق المحلات التي تعاني من نقص البضائع، ويفضل الجميع ملازمة المنزل، مستمعين إلى أصوات إطلاق النار المتقطعة من آن لآخر. وقبل بداية شهر رمضان كانت الأزمة في ذروتها، فلم يكن هناك وجود للبنزين في أنحاء مدينتي العريش والشيخ زويد المجاورة لها، ومع بداية شهر رمضان، بدأت المحطات في ضخ كميات قليلة من البنزين، ما أدى إلى ظهور طوابير السيارات منذ الصباح وحتى ساعة الإفطار.
ولكن ظهور الوقود على استحياء لم يغير حياة سليم إبراهيم، التي انقلبت رأساً على عقب، منذ بدء عملية “سيناء 2018″، إذ أصبح منذ ذلك الحين يستيقظ قبل ميعاد عمله بـ3 ساعات، كل صباح فينظر إلى سيارته التي لم يسمع صوت محركها منذ وقت طويل بسبب نقص الوقود، ثم يبدأ رحلته الشاقة واليومية إلى مقر العمل. يقيم “سليم” في الطرف الشرقي من مدينة العريش، حيث حي الريسة، الذي ينعم بهدوء نسبي بعيداً عن الاشتباكات التي تجرى بصفة مستمرة بين الجيش ومسلحي تنظيم “ولاية سيناء”، بينما يبعد مقر عمله الكائن بجوار الموقف القديم بوسط البلد، حوالي 7 كيلومترات، وهي المسافة التي كان يقطعها في السابق باستخدام سيارته، لكن مع ندرة الوقود اضطر إلى استبدال سيارته بوسيلة أخرى وهي “الدراجة”.
يوم عمل مرهق داخل العريش .. ليس العمل المرهق فمتعة العمل فى مشقته .. الإرهاق فى البحث عن مواصلة .. والأكثر ارهاقا ان الواحد لايستطيع تحريك سيارته نظرا لإغلاق محطات الوقود وفى الشارع كأن كل السيارت الملاكى تسير .. كيف هذا .. زمان قالو ( الكيف عند اهل الكيف كيف)
الدراجات الهوائية أصبحت بديلاً للسيارات، ولكن الحصول عليها لم يعد أمراً سهلاً
رحلة البحث عن دراجة في مدينة لا تعمل فيها السيارات إلا نادراً، رحلة شاقة ومكلفة، وفق لـ”سليم”، الذي يقول: “بعد مرور أيام من العملية العسكرية قررت استخدام الدراجة، أردت أن أشتري واحدة جديدة فوجدت أن سعرها ألفين جنيه (نحو 106 دولارات)، فقررت إصلاح عجلتي القديمة التي اشتراها لي والدي حين كنت في المرحلة الثانوية وكلفني تصليحها 500جنيه”. يعزو “سليم” ارتفاع أسعار الدراجات المفاجئ في مدينة العريش إلى الإقبال الشديد عليها، يضيف: “الناس كلها فكرت مثلي وظهر إقبال شديد جداً على شرائها فارتفع ثمنها لأرقام مبالغ فيها”.
ولكن لماذا ارتفعت أسعارها بهذا الشكل؟
في محل والده العتيق الخاص بتصليح الدراجات في شارع 26 يوليو بوسط مدينة العريش، يجلس أحمد الشوربجي، هذا المحل أصبح يلقى رواجاً هذه الأيام على عكس ما مضى. فوفق لأحمد لم تعد الزبائن تنقطع، حتى أن مخزن الدراجات أصبح خاوياً بسبب إقبالهم على الشراء، والمحل تفرغ للصيانة فقط. تبدأ أسعار الدراجات في محل “الشوربجي” من 2000 جنيه مصري، وهو سعر الدراجة المستعملة ولكن حالتها جيدة، وفق حديثه، ويمكن أن يصل ثمن الدراجة إلى 5 آلاف جنيه، وهي دراجة في الظروف العادية لن يتجاوز ثمنها الـ1800 جنيه. سببان وراء ارتفاع أسعار الدراجات بهذه الطريقة الجنونية، حسب الشوربجي، أولهما الإقبال الشديد الذي يفوق حجم البضائع المتوافرة في السوق من الدراجات، وثانيهما هو أن تجار الدراجات في شمال سيناء لا يستطيعون جلب المزيد من البضائع إلى المدينة بسبب توقف الطريق الدولي الذي يربط العريش بوادي النيل، حيث لا يدخل المحافظة أو يخرج منها شيء إلا بالتنسيق مع القوات المسلحة والمحافظة. وأعاقت القيود التي فرضت من قبل السلطات منذ 9 فبراير/شباط 2018، الأنشطة الاقتصادية ومصادر الدخل لمعظم السكان عندما أعلن محافظ شمال سيناء اللواء عبد الفتاح حرحور أنه سيتم إغلاق جميع المدارس والجامعات في المحافظة “حتى إشعار آخر”. وحسب تقرير هيومان رايتش ، فإن الجيش المصري لم يعلن عن تبرير مفصل للعزل شبه الكامل للأحياء والمدن في المحافظة، لكن تصريحات الجيش تحدثت عن “قطع الإمدادات” عن الجماعات المسلحة ومنع المسلحين من الفرار إلى خارج سيناء.
لمن لا يستطيع قيادة الدراجات الأتوبيس العام بديلاً ولكنه لا يرحم
في مدينة المساعيد، على الجانب الغربي من مدينة العريش، يعيش أحمد صالح، الذي يعمل موظفاً في مجلس المدينة بوسط المدينة. ومنذ بدء “العملية الشاملة” أصبح يستيقظ قبل موعد عمله بـ3 ساعات هو الآخر، ثم يحرص على التواجد في “دوران شبرا” حيث موقف السيارات قبل السابعة والنصف، في انتظار حافلة “شرق الدلتا” ليحصل على مقعد، فهو يدرك مغبة التأخر، في أفضل الظروف قد يجد مكاناً قريباً من الباب يحشر فيه جسده، أو قد يتركه الأتوبيس وينصرف. تجاوز “صالح” الأربعين عاماً، وهو يعاني من مرضي السكري والضغط، وبالتالي فإن صحته لا تشجعه على شراء دراجة ليستخدمها كوسيلة مواصلات إلى مقر عمله الذي يبعد ما يقرب من 17 كيلومتراً عن منزله، والبديل بالنسبة له هو أتوبيس (حافلة) “شرق الدلتا” التي خصصتها المحافظة للموظفين. يدرك “صالح” عقابه جيداً إذا تأخر في الاستيقاظ، يقول: “في بعض الأحيان اتأخر ولا ألحق بالحافلة، وفي هذه الحالة أقف على الطريق الدولي وانتظر لوقت طويل أي سيارة تقلني إلى مكان عملي”. ولم تعد حتى مهمة الركوب مع أي سيارة عابرة أمراً سهلاً في ضوء انخفاض حركة السيارات في الطرق حيث يشير تحليل “هيومن رايتس ووتش” لصور الأقمار الصناعية الملتقطة بعد بدء عملية “سيناء 2018″ بين 22 فبراير/شباط و14 أبريل/نيسان 2018، إلى أن حركة المرور على الطرق المدنية المحلية انخفضت بشكل كبير نتيجة للعملية العسكرية في المنطقة. ورغم ما تمر به المدينة من ظروف صعبة، يبدو “صالح” متفائلاً إذ يقول: “المحافظ قرر أن تعمل محطات الوقود الخاصة بالغاز الطبيعي ، وهذا معناه أن سيارات التاكسي التي تعمل بالغاز ستسير في شوارع المدينة قريبا جداً”، وهو ما يعتبره انفراجة تأتي ضمن سلسلة انفراجات شهدتها مدينة العريش في الآونة الأخيرة.
في الجنوب المنسي.. “الحمار” أنقذ الموقف ومهن جديدة تظهر
خارج مدينة العريش، حيث “الجنوب المنسي”، وهو لقب يطلقه عدد من نشطاء مدينة الشيخ زويد على قرى جنوب رفح والشيخ زويد، ظهرت وسيلة جديدة للمواصلات. فالتشديدات الأمنية هنا أكثر تعقيداً من مدينة العريش، والحياة تتوقف تماماً بعد الثالثة ظهراً، لكن منذ الصباح تعج الشوارع والأسواق “بعربات الكارو” – عربات خشبية تجرها الحمير- التي أصبحت وسيلة مواصلات لا غنى عنها في هذه المنطقة. منذ فترة طويلة تتجاوز الشهرين، أصبح عودة إبراهيم أحد سكان قرية “البرث” جنوب الشيخ زويد، يعتمد بشكل أساسي على “الحمار” كوسيلة مفضلة لديه، تاركاً سيارته “التويوتا” أو كما يطلق عليها الأهالي “ماردونا” بسبب قلة الوقود. وازدادت أهمية الحمير، بحسب عودة” مع ارتفاع حدة أزمات انقطاع المياه والتيار الكهربائي في المدينة، يقول: “الحمار بيشيل كل حاجة، بننقل عليه مياه الشرب وأكلنا وعندما تتوفر أسطوانات الغاز تصبح الغلبة لمن يمتلك حماراً يقدر يحمل عليه أنبوبتين بوتجاز أو تلاتة”. السلعة الأهم لدى الأهالي في الشيخ زويد، هي “الطحين” أو الدقيق، المثل هناك يقول إذا وجد الدقيق فلا أحد سيظل جائعاً. ووفقاً لعودة إبراهيم فإنه بخلاف ارتفاع سعر جوال الدقيق في المدينة إن وجد، فإن نقله لا يمكن أن يتحقق سوى باستخدام “حمار”، وهو الأمر الذي أدى إلى ارتفاع أسعار هذا الحيوان ليتراوح بين 2000 إلى 3000 آلاف جنيه للحمار الواحد. مهنة جديدة ظهرت أيضاً في الشيخ زويد بحسب “عودة” وهي العاملون على “عربات الكارو”، فبدلاً من وسائل النقل التقليدية التي كانت شائعة حتى وقت قريب، اضطر عدد من الشباب إلى مكافحة البطالة التي يعانون منها، عن طريق العمل بنقل البضائع أو الأشخاص بواسطة “الحمار” نظير مقابل مادي، يتم تحديده وفقاً للمسافة والحمولة.