فلسطين هي الأرض المقدسة والمباركة

فلسطين هي الأرض المقدسة والمباركة
الدكتور منصور أبوشريعة العبادي
جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية

ظهر في الآونة الأخيرة عدد من الكتاب الذين حاولوا أن يقنعوا العرب والمسلمين بأن اليهود لم يكونوا يوما من الأيام في فلسطين بل كانوا إما في جنوب الحجاز أو في الحبشة أو في شمال السودان وجنوب مصر. إن الهدف الظاهر لكتابتهم والذي لا ينطلي إلا على السذج من الناس هو أنه لا حق لليهود في فلسطين ولكن الهدف الخفي هو التشكيك في جميع الآيات القرآنية التي تتحدث عن الأرض المقدسة والأرض المباركة والتي جاءت مرتبطة بالحديث عن بني إسرائيل والتي سأشرحها بالتفصيل. فإذا ما سلم المسلمون بافتراءات هولاء الكتاب فإن النتيجة هو نفي القدسية والمباركة عن فلسطين والقدس حيث المسجد الأقصى ويعتبروها أرضا كبقية الأراضي يمكن الاستغناء عنها. لقد أجمع المسلمون منذ إسراء نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم إلى القدس عاصمة فلسطين على أن فلسطين هي الأرض المقدسة والمباركة وقد فسر جميع علماء التفسير الآيات القرآنية التي جاء ذكر الأرض المقدسة والمباركة فيها على أن المعني فيها هو فلسطين لا غيرها. بل لقد أجمع جميع المؤرخين المسلمين والمسيحين وغيرهم على أن فلسطين كانت مسرح الأحداث لجميع ما حدث لليهود من حروب وعلو ومن ثم سبي وتشتيت بل كانت مسرح لتصارع القوى الكبرى على مر التاريخ من الأشوريين والبابليين والفراعنه والفرس والروم واليونان وحتى في عصرنا هذا. ولقد ثبت بالتواتر من أن معظم أنبياء بني إسرائيل الذين ذكرهم القرآن الكريم قد عاشوا في فلسطين وصلوا في المسجد الأقصى وكان آخرهم زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام ولا زال بعض المحاريب والأماكن في المسجد الأقصى تسمى بأسمائهم. بل إن قبور معظم هؤلاء الأنبياء موجودة في فلسطين والأردن ولقد أقام المسلمون منذ عهودهم الأولى المقامات والمساجد عند أضرحتهم ففي الحرم الأبراهيمي في الخليل توجد قبور إبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف وفي القدس قبور داود وسليمان وفي البتراء جنوب الأردن قبر هارون وفي الخان الأحمر شرقي القدس قبر موسى وفي السلط قبر يوشع بن نون وفي عجلون قبر إلياس.

وعندما أطلعت على كتاب أشهر هؤلاء الكتاب المفترين وهو (التوراة جاءت من جزيرة العرب) لكمال الصليبي وجدته في منتهى السخافة وحجته أوهى من بيت العنكبوت. فلقد قال في مقدمة الكتاب ما نصه (وأساس الكتاب هو المقابلة اللغوية بين اسماء الاماكن المضبوطة في التوراة بالحرف العبري واسماء أماكن تاريخية او حالية في جنوب الحجاز وفي بلاد عسير). إن أسماء الأماكن التي ذكرتها التوراة موجودة في فلسطين بشكل صريح لا لبس فيه بينما حاول الصليبي بشكل متعسف تحوير الأسماء في عسير لتتطابق مع أسماء التوراة. وبناء على مبدأ المقابلة اللغوية الذي اعتمده الصليبي كان الأولى أن يختار فلسطين وليس عسير كموطن لليهود وتكون أسماء الأماكن العبرية في عسير إن صحت قد سميت من قبل اليهود الذين هاجروا إلى اليمن بعد الشتات. أما الحقيقة الثانية التي تثبت مدى جهله فهي قوله أن إبراهيم عليه السلام كان يقيم في مكة المكرمة وليس في فلسطين وذلك اعتمادا على قوله تعالى “وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى” البقرة. لقد فسر الصليبي المقام في هذه الآية على أنه السكن وغاب عن ذهنه أن أطفال المسلمين يعرفون أن مقام إبراهيم هو حجر كان يقف عليه إبراهيم عليه السلام عندما بنى الكعبة مع ابنه إسماعيل عليه السلام وهو أحد الآيات التي تركها الله عز وجل عند الكعبة مصداقا لقوله تعالى “فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ” آل عمران. وسنشرح فيما يلي جميع الآيات التي جاء فيها ذكر الأرض المقدسة والمباركة ليتبين للقاريء أنه لا يمكن التوفيق بينها إلا أن تكون هناك أرضا واحدة فقط مباركة ومقدسة وهي فلسطين وشرقي الأردن.

ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين

تبدأ قصة بني إسماعيل وبني إسرائيل بهجرة نبي الله إبراهيم ابن آزر (4000ق.م إلى 1825 ق.م) وابن أخية نبي الله لوط ابن ناحور من مدينة أور في جنوب العراق بعد أنجاه الله عز وجل من بطش النمرود إلى أرض فلسطين التي وصفها الله عز وجل بالأرض التي بارك الله فيها لكافة البشر في قوله تعالى “وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)” الأنبياء. واستقر سيدنا إبراهيم عليه السلام بعد مروره على سوريا في مدينة الخليل التي تقع جنوب فلسطين والتي سميت بمدينة خليل الرحمن نسبة للقب الذي اشتهر به في قوله تعالى “وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)” النساء. وقد دفن إبراهيم عليه السلام بعد أن عاش 175 عاما في مغارة في الخليل والتي دفن فيها أيضا كل من زوجته سارة وابنه نبي الله إسحاق وحفيدة نبي الله يعقوب (إسرائيل) عليهم السلام وزوجتيهما. وقد بنى نبي الله سليمان عليه السلام حول المغارة سورا عظيما بحجارة ضخمة ومصقولة وصل طول بعضها سبعة أمتار وذلك بأمر من الله عز وجل وبمساعدة الجن الذين قال الله عز وجل فيهم “يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)” سبأ.

وقد قام خلفاء بني أمية بعد بنائهم المسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرفة ببناء مسجد فوق هذه المغارة على أساس بناء سليمان عليه السلام وسموه المسجد أو الحرم الابراهيمي واعتبره المسلمون رابع أقدس المساجد عندهم. وقد قام الصليبيون بعد احتلال فلسطين في عام 1099م بتحويله إلى كنيسة ويروى أن المغارة التي تحتوي قبور الأنبياء الثلاث قد انهارت أثناء العمل في المقام وذلك عام 1119م وقد اكتشفوا أن أجساد الأنبياء الثلاث لم تتغير أبدا بينما بليت أكفانهم ولا ريب في ذلك فقد حرم الله عز وجل أجساد الأنبياء على الأرض. وبعد طرد الصليبين على يد القائد صلاح الدين الأيوبي في عام 1187م قام بترميمه وإرجاعه كما كان وبقي على هيئته إلى هذا الزمن إلا أنه تم تقسيمه إلى قسمين قسم لليهود وقسم للمسلمين بعد احتلال اليهود لباقي فلسطين عام 1967م. ومن الطريف أن القرآن الكريم قد ذكر الأنبياء الثلاث ابراهيم واسحاق ويعقوب المدفونبن في هذه المغارة في آية واستثنى منهم إسماعيل عليه السلام رغم أنه الابن الأكبر لإبراهيم عليه السلام في قوله تعالى “وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48)” ص. ولو أن هذا القرآن الكريم من عند غير الله عز وجل لأدخل سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام اسم جده الأكبر في هذه الآية ليشمله هذا المديح العظيم من الله عز وجل.

وما قوم لوط منكم ببعيد

أما لوط عليه السلام فقد استقر في مدن المؤتفكات وهي سدوم وعمورة والتي تقع جنوب البحر الميت في غور الأردن وعلى بعد عدة عشرات من الكيلومترات إلى الجنوب الشرقي من مدينة الخليل حيث يسكن عمه إبراهيم عليه السلام. ولما أرسل الله عز وجل ملائكته لإنزال العذاب بقوم لوط مروا على ابراهيم عليه السلام ليبشروه باسحاق وليخبروه أيضا بإهلاكهم قوم لوط. وحاول عليه السلام بما أودع الله عز وجل في قلوب الأنبياء من رحمة أن يثنيهم عن ذلك كما جاء ذلك في قوله تعالى “فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)” هود. وقد أشار القرآن الكريم إلى المكان الذي كان يسكنه قوم لوط وأنه في فلسطين وليس بعسير أو الحبشة حيث ذكر أن تجار قريش كانوا يمرون على القرى الهالكة التي كانت في طريق تجارتهم و وذلك في قوله تعالى “وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)” الصافات. وكذلك ذكر شعيب عليه السلام أهل مدين التي تقع مدينتهم شمال الجزيرة العربية بالعذاب الذي حل بالأقوام السابقة وكان أخرهم وأقربهم قوم لوط كما جاء في قوله تعالى “وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89)” هود.

ربي إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع

رزق الله عز وجل إبراهيم عليه السلام ولده إسماعيل (الغلام الحليم) من هاجر المصرية وهو في عمر86 سنة وولده اسحاق (الغلام العليم) من ابنة عمه سارة بمعجزة ربانية وهو في عمر مائة سنة مصداقا لقوله تعالى “الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39)” ابراهيم وقوله تعالى “وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)” هود. وبأمر من الله عز وجل أخذ ابراهيم عليه السلام ابنه اسماعيل وأمه هاجر من فلسطين وأسكنهم في مكة المكرمة حيث يوجد أول مسجد بنته الملائكة للناس كما جاء ذلك في قوله تعالى “رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)” ابراهيم. وكما هو واضح من نص الآية فإن إبراهيم عليه لم يسكن جميع ذريته في مكة المكرمة بل بعضا من ذريته وهو اسماعيل عليه السلام المذكور في قوله تعالى “وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)” البقرة.

تزوج إسماعيل عليه السلام زوجة من جرهم وهم من العرب العاربة (القحطانيون) والذين سكنوا مكة المكرمة بعد أن ظهرت عين زمزم فيها كمعجزة من الله عز وجل لسقي هاجر وابنها اسماعيل عليه السلام في هذا المكان القاحل. ورزق الله عز وجل اسماعيل عليه السلام اثني عشر ولدا وهم أصل جميع العرب المستعربة (الاسماعيليون أو العدنانيون). ولقد أوردت التوراة أسماء أولاد اسماعيل الاثني عشر وهم ﻨﺒﺎﻴﻭﺕ ﻭﻗﻴـﺩﺍﺭ ﻭﺍﺩﺒﺌﻴـل ﻭﻤﺒﺴﺎﻡ ﻭﻤﺸﺎﻉ ﻭﺩﻭﻤﺔ ﻭﻤﺴﺎ ﻭﺤﺩﺍﺭ ﻭﺘﻴﻤﺎ ﻭﻴﻁﻭﺭ ﻭ ﻨﺎﻓﻴﺵ ﻭﻗﺩﻤﺔ. وقد انتشرت ذرية أولاد إسماعيل عليه السلام في مكة المكرمة وما حولها وفي شمال الجزيرة العربية وجنوب الشام وبادية العراق وأقاموا ممالك كثيرة كمملكة الأنباط نسبة إلى نبايوت الابن الأكبر ومملكة قيدار نسبة إلى الابن الثاني وكذلك سميت مدن في شمال الجزيرة بأسمائهم كمدينة تيماء ودومة الجندل. وعلى الرغم من أن القرآن الكريم لم يذكر مباركة الله عز وجل لإسماعيل بينما ذكر مباركة إسحاق عليهما السلام إلا أن التوراة ذكرت هذه المباركة في سفر التكوين 17: 18-21 (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لِلَّهِ: «لَيْتَ إِسْمَاعِيلَ يَعِيشُ أَمَامَكَ!» فَقَالَ اللهُ بَلْ سَارَةُ امْرَأَتُكَ تَلِدُ لَكَ ابْناً وَتَدْعُو اسْمَهُ إِسْحَاقَ. وَأُقِيمُ عَهْدِي مَعَهُ عَهْداً أَبَدِيّاً لِنَسْلِهِ مِنْ بَعْدِهِ. وَأَمَّا إِسْمَاعِيلُ فَقَدْ سَمِعْتُ لَكَ فِيهِ. هَا أَنَا أُبَارِكُهُ وَأُثْمِرُهُ وَأُكَثِّرُهُ كَثِيراً جِدّاً. اثْنَيْ عَشَرَ رَئِيساً يَلِدُ وَأَجْعَلُهُ أُمَّةً كَبِيرَةً.). وقد تعني المباركة للأشخاص التي ذكرت في التوراة والقران هو أن يظهر أنبياء في ذريته وهو ما حصل مع إسماعيل عليه السلام حيث بعث الله عز وجل نبي واحد في ذريته وهو خاتم الأنبياء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم استجابة لدعاء أبائه إبراهيم واسماعيل عليهما السلام مصداقا لقوله تعالى “رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)” البقرة. وفي عدم ذكر مباركة إسماعيل عليه السلام في القرآن الكريم وذكر مباركة إسحاق رغم ذكرها في التوراة حجة مفحمة للذين يقولون أن هذا القرآن أخذ معلوماته من التوراة فلو كان الأمر كذلك لكانت مباركة إسماعيل أول ما أخذه القرآن من التوراة.

وباركنا عليه وعلى إسحاق

عاش إسحاق مع أبيه إبراهيم عليهما السلام في مدينة الخليل ورزق بإبنين وهما عيسو (العيص) ويعقوب أو إسرائيل وبأمر من الله عز وجل بارك إسحاق ابنه يعقوب لتكون في ذريته النبوة والكتاب كما جاء في قوله تعالى “وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)” الصافات وقوله تعالى “وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)” الأنبياء. ويعتبر يعقوب وليس إسحاق عليهما السلام أبا اليهود أو بني إسرائيل وهم ذرية أولاد يعقوب الأثني عشر بعدد أولاد إسماعيل عليه السلام. وتوفي إسحاق عليه السلام في الخليل ودفن مع أبيه بينما عاش يعقوب في الخليل إلى أن هاجر مع جميع أبنائه إلى مصر بعد أن أصبح ابنه يوسف عليه السلام عزيزا لمصر كما جاء في قوله تعالى “فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99)” يوسف. ومات يعقوب عليه السلام في مصر وأوصى بأن يدفن عند أبيه وجده عليهما السلام فأمر يوسف عليه السلام بتحنيطه ونقله إلى مدينة الخليل حيث دفن في نفس مغارة الحرم الابراهيمي.

يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة

مكث بني إسرائيل في مصر ما يقرب من ثلاثمائة سنة وكانوا معززين مكرمين في زمن حكم يوسف عليه السلام ولكن بعد موته بدأ المصريون يضيقون بهم ذرعا ومن ثم بدأوا باستعبادهم وتعذيبهم وقتل أبنائهم واستحياء نسائهن كما جاء في قوله تعالى “وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) ” الأعراف. لقد أنجى الله عز وجل بني إسرائيل من بطش فرعون مصر بقيادة موسى وهارون عليهما السلام وأهلك فرعون وجنوده في البحر والذي شقه الله عز وجل ليعبر منه بني إسرائيل سالمين كما جاء في قوله تعالى “وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)” يونس. وبعد عبور بني إسرائيل بحر خليج السويس وربما خليج العقبة أمرهم موسى عليه السلام بالتوجه إلى فلسطين لقتال الجبابرة (الكنعانيون) الذين كانوا يعيشون فيها كما جاء في قوله تعالى “يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)” المائدة. ولكن بني إسرائيل بعنادهم المعهود رفضوا أمر موسى عليه عليه السلام وطلبوا منه أن يذهب هو وربه لقتال جبابرة فلسطين وأنهم سيدخلونها بعد أن يخرجوا منها كما جاء في قوله تعالى “قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)” المائدة وقوله تعالى “قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ (24)” المائدة. وبسبب هذا العناد والكفر من بني إسرائيل فقد حرم الله عز وجل عليهم دخول الأرض المقدسة وهي فلسطين أربعين عاما وكتب عليهم التيه فانتقلوا من سيناء إلى شمال الجزيرة العربية وجنوب الأردن كما جاء في قوله تعالى “قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)” المائدة وكما جاء في سفر العدد الإصحاح 32 “13فَحَمِيَ غَضَبُ الرَّبِّ عَلَى إِسْرَائِيلَ وَأَتَاهَهُمْ فِي الْبَرِّيَّةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، حَتَّى فَنِيَ كُلُّ الْجِيلِ الَّذِي فَعَلَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ”.

وعند إنتهاء فترة التيه وموت معظم كبار بني إسرائيل الذين عصوا موسى عليه السلام سار عليه السلام بجيل جديد نحو الأرض المقدسة وعند وصوله مدينة مادبا وقف على جبل نيبو الذي يقع في الشمال الغربي منها حيث يمكن مشاهدة أريحا والبحر الميت وبيت المقدس وما حوله بكل وضوح. ولقد كتب الله عز وجل الموت على موسى عليه السلام قبل أن يدخل الأرض المقدسة مع قومه فقد روى البخاري في صحيحه فقال: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: فسأل (موسى) الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر). قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر). وفي الحديث الذي رواه النسائي في السنن الكبرى قال: (عَنْ أَنَس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أتيت ليلة أسري بي على موسى عِنْدَ الكثيب الأحمر وهو قائم يصلي في قبره). وقد قام القائد الإسلامي صلاح الدين الأيوبي عند تحريره بيت المقدس من الصليبيين ببناء مقام على ما كان يعتقد أنه قبر النبي موسى عليه السلام بعد أن وجد البدو الذين يعيشون في تلك المنطقة يتبركون بقبر في الخان الأحمر على جانب طريق القدس من أريحا يعتقدون أنه قبر موسى عليه السلام وفي رواية أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وهو في طريقه إلى تحرير بيت المقدس فأراه مكان القبر.

وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها

ودخل بني إسرائيل الأرض المقدسة بقيادة يوشع بن نون بعد هزيمة الجبارين في معركة وقعت في مدينة أريحا التي تقع غرب نهر الأردن وشرقي القدس وذلك في عام 1130 قبل الميلاد على أغلب الأقوال. وأسكن يوشع بن نون تسعة أسباط ونصف سبط في مناطق مختلفة من فلسطين وسبطين ونصف سبط في مادبا والسلط وإربد شرقي الأردن (مَشَارِقَ الْأَرْضِ) كما جاء في قوله تعالى “وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)” الأعراف. وبعد موت يوشع بن نون عليه السلام تم دفنه في مدينة السلط وقد بنى الخلفاء العثمانيون مسجدا على هذا المقام والذي تم تجديده في عهد الملك عبدالله بن الحسين بن طلال ملك المملكة الأردنية الهاشمية. وكان يحكم كل سبط من اليهود رجل منهم يسمى قاضيا ولذلك سميت تلك الفترة بعهد القضاة والتي امتدت لمائة عام تقريبا. وخلال هذه الفترة لم يكن لليهود ملكا حقيقيا على فلسطين فقد سلط الله عليهم الأمم التي من حولهم وهم العمونيون والأدوميون والعمالقة والفلسطينيون والآراميون وذلك بسبب عودتهم للكفر وعبادة الأصنام بعد موت يوشع بن نون عليه السلام. إن سماح الله سبحانه وتعالى لليهود بدخول الأرض المقدسة ليس بسبب صلاحهم رغم وجود الأنبياء فيهم بل لأمر قد قدره الله سبحانه وتعالى كما جاء ذلك في سفر التثنية الإصحاح التاسع ما نصه 1(اِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ، أَنْتَ الْيَوْمَ عَابِرٌ الأُرْدُنَّ لِكَيْ تَدْخُلَ وَتَمْتَلِكَ شُعُوبًا أَكْبَرَ وَأَعْظَمَ مِنْكَ، وَمُدُنًا عَظِيمَةً وَمُحَصَّنَةً إِلَى السَّمَاءِ. 2قَوْمًا عِظَامًا وَطِوَالاً، بَنِي عَنَاقَ الَّذِينَ عَرَفْتَهُمْ وَسَمِعْتَ: مَنْ يَقِفُ فِي وَجْهِ بَنِي عَنَاقَ؟ 3فَاعْلَمِ الْيَوْمَ أَنَّ الرَّبَّ إِلهَكَ هُوَ الْعَابِرُ أَمَامَكَ نَارًا آكِلَةً. هُوَ يُبِيدُهُمْ وَيُذِلُّهُمْ أَمَامَكَ، فَتَطْرُدُهُمْ وَتُهْلِكُهُمْ سَرِيعًا كَمَا كَلَّمَكَ الرَّبُّ. 4لاَ تَقُلْ فِي قَلْبِكَ حِينَ يَنْفِيهِمِ الرَّبُّ إِلهُكَ مِنْ أَمَامِكَ قَائِلاً: لأَجْلِ بِرِّي أَدْخَلَنِي الرَّبُّ لأَمْتَلِكَ هذِهِ الأَرْضَ. وَلأَجْلِ إِثْمِ هؤُلاَءِ الشُّعُوبِ يَطْرُدُهُمُ الرَّبُّ مِنْ أَمَامِكَ. 5لَيْسَ لأَجْلِ بِرِّكَ وَعَدَالَةِ قَلْبِكَ تَدْخُلُ لِتَمْتَلِكَ أَرْضَهُمْ، بَلْ لأَجْلِ إِثْمِ أُولئِكَ الشُّعُوبِ يَطْرُدُهُمُ الرَّبُّ إِلهُكَ مِنْ أَمَامِكَ، وَلِكَيْ يَفِيَ بِالْكَلاَمِ الَّذِي أَقْسَمَ الرَّبُّ عَلَيْهِ لآبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ. 6فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ لأَجْلِ بِرِّكَ يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ هذِهِ الأَرْضَ الْجَيِّدَةَ لِتَمْتَلِكَهَا، لأَنَّكَ شَعْبٌ صُلْبُ الرَّقَبَةِ).

وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض

وبعد دخول بني إسرائيل الأرض المقدسة استقر بهم المقام فيها كما جاء ذلك في قوله تعالى “وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)” الإسراء. والأرض في هذه الآية هي أرض فلسطين التي سيقومون بالإفساد فيها مرتين كما جاء في بداية سورة الإسراء والأخرة في هذه الآية هو الإفساد الثاني الذي سيتم بعد جمع اليهود من الشتات (لفيفا). لقد تعرض اليهود لشتى أنواع العذاب من الأمم المحيطة بهم في غياب قيادة لهم بموت يوشع بن نون ولذلك طلبوا من نبيهم في ذلك العصر أن يجعل عليهم ملكا يقاتلون تحت رايته الأعداء الذين من حولهم فأوحى الله إلى نبيهم أن يملكوا طالوت عليهم فقبلوا هذا الأمر بعدد تردد طويل كعادتهم وكان ذلك في عام 1025 قبل الميلاد كما جاء في قوله سبحانه وتعالى “وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)” البقرة. وبعد اختيار طالوت ملكا على اليهود قام بمحاربة الأقوام في المناطق المجاورة بقلة من بني إسرائيل بعد أن تقاعس أكثرهم عن القتال وانتصر على أعدائه وأصبح لليهود دولة قوية وبدأ بذلك ما يسمى بعهد الملوك. وحكم اليهود بعد طالوت داود عليه السلام وكان نبيا وملكا كما جاء ذلك في قوله تعالى “فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)” البقرة.

ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها

وبعد موت داود عليه السلام استلم الحكم ابنه سليمان عليه السلام كما جاء في قوله تعالى “وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)” النمل. وقد آتى الله عز وجل نبيه سليمان ملكا عظيما شمل معظم بلدان الشرق الأوسط وسخر له الجن والريح والطير كما جاء ذلك في آيات كثيرة كما في قوله تعالى “قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37)” ص وقوله تعالى “وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81)” الأنبياء. ومن الواضح أن الأرض المباركة التي كانت تجري الريح العاصفة إليها بأمر سليمان عليه السلام هي فلسطين حيث كانت عاصمة ملكه. ومما يؤكد على أن سليمان عليه السلام كان في فلسطين هو أنه كان يجهل وجود مملكة سبأ فلو أنه كان في عسير أو الحبشة كما يزعم البعض لعلم بها بسبب قربها منها ولكنه علم بها بعد أن أخبره به الهدهد وذلك في قوله تعالى “فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ (22)” النمل.

وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة

وجاء ذكر الأرض المباركة أيضا في سورة سبأ حيث إمتن الله عز وجل على قوم سبأ أن جعل بين قراهم والقرى المباركة التي كانوا يتاجرون معها قرى ظاهرة يستريحون فيها كما جاء ذلك في قوله تعالى “وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18)” سبأ. فقوم سبأ كانوا يسكنون في مدينة مأرب في شرقي اليمن حول سد مأرب المعروف وكانوا يتبادلون التجارة مع معظم مدن الشام وخاصة مدن فلسطين المباركة وبسبب بعد المسافة بينها قام الناس ببناء قرى أو محطات على طرق التجارة لخدمة التجار والاستفادة منهم وهي القرى الظاهرة التي جاء ذكرها في الآية.

وقضينا إلى بني إسرائيل لتفسدن في الأرض مرتين

وبموت سليمان عليه السلام في عام 935 قبل الميلاد انتهت الفترة الذهبية والصالحة من حكم اليهود لفلسطين والتي دامت ما يقرب من تسعين عاما فقط. وبعدها انقسمت دولة اليهود إلى دولتين ضعيفتين بعد صراع فيما بينهم وبعد أن استعان كل طرف منهم على الآخر بالدول التي من حولهم كالمصريين والأشوريين والكلدانيين. فظهرت دولة يهوذا في جنوب فلسطين وعاصمتها القدس وكان يسكنها سبطين من أسباط اليهود وكان ملكها الأول رحبعام ابن سليمان عليه السلام ودولة إسرائيل في الشمال وعاصمتها السامرة وكان يسكنها بقية أسباط اليهود. وقد تعاقب على كل من الدولتين تسعة عشر ملكا وقد بدأ الفساد يظهر في الدولتين وبدأ اليهود بالابتعاد عن شرع الله وقاموا بعبادة العجل والذي ما انفك اليهود يشتاقون لعبادته منذ أن عبدوه في أيام موسى عليه السلام مصداقا لقوله تعالى “وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)”البقرة.

وبنبذ اليهود لعهود الله عز وجل عليهم وبعبادتهم الأوثان وارتكابهم الفواحش وإفسادهم في الأرض المقدسة والمباركة بدأت العقوبات العظيمة التي وعدهم الله عز وجل إياها بالظهور. وهذا الإفساد هو الإفساد الأول الذي ذكره الله عز وجل في القرآن الكريم في قوله تعالى “وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)” الإسراء. وكان أول هذه العقوبات لهم هو تدمير دولة إسرائيل الشمالية بشكل كامل على يد الأشوريين في عام 722 قبل الميلاد بينما تم تدمير دولة يهوذا الجنوبية على يد البابليين في عام 586 قبل الميلاد وتم كذلك تدمير المسجد أو المعبد الذي بناه سليمان عليه السلام في بيت المقدس. ولقد تم سبي كثيرا من يهود المملكتين على يد الأشوريين والبابليين واتخذوهم عبيدا لهم وذلك تحقيقا لما كتبه الله عز وجل عليهم. وبهذا السبي انتهى ملك اليهود على الأرض المقدسة بسبب علوهم وإفسادهم فصدقت بذلك نبوءة التوراة فيهم وكما أكد على ذلك القرآن الكريم في سورة الإسراء والذي ذكر أن الإفساد الأول وعقوبته قد تم قبل نزول القرآن “وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)” الإسراء. أما التوراة فقد تنبأت بهذا الإفساد الأول قبل وقوعه فقد جاء فيها “26أُشْهِدُ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ أَنَّكُمْ تَبِيدُونَ سَرِيعًا عَنِ الأَرْضِ الَّتِي أَنْتُمْ عَابِرُونَ الأُرْدُنَّ إِلَيْهَا لِتَمْتَلِكُوهَا. لاَ تُطِيلُونَ الأَيَّامَ عَلَيْهَا، بَلْ تَهْلِكُونَ لاَ مَحَالَةَ. 27وَيُبَدِّدُكُمُ الرَّبُّ فِي الشُّعُوبِ،” وكما جاء كذلك في سفر التثنية الاصحاح الثامن والعشرين ما نصه: 49يَجْلِبُ الرَّبُّ عَلَيْكَ أُمَّةً مِنْ بَعِيدٍ، مِنْ أَقْصَاءِ الأَرْضِ كَمَا يَطِيرُ النَّسْرُ، أُمَّةً لاَ تَفْهَمُ لِسَانَهَا، 50أُمَّةً جَافِيَةَ الْوَجْهِ لاَ تَهَابُ الشَّيْخَ وَلاَ تَحِنُّ إِلَى الْوَلَدِ، 51فَتَأْكُلُ ثَمَرَةَ بَهَائِمِكَ وَثَمَرَةَ أَرْضِكَ حَتَّى تَهْلِكَ، وَلاَ تُبْقِي لَكَ قَمْحًا وَلاَ خَمْرًا وَلاَ زَيْتًا، وَلاَ نِتَاجَ بَقَرِكَ وَلاَ إِنَاثَ غَنَمِكَ، حَتَّى تُفْنِيَكَ. 52وَتُحَاصِرُكَ فِي جَمِيعِ أَبْوَابِكَ حَتَّى تَهْبِطَ أَسْوَارُكَ الشَّامِخَةُ الْحَصِينَةُ الَّتِي أَنْتَ تَثِقُ بِهَا فِي كُلِّ أَرْضِكَ. تُحَاصِرُكَ فِي جَمِيعِ أَبْوَابِكَ، فِي كُلِّ أَرْضِكَ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ.

وقطعناهم في الأرض أمما

وبطرد الله عز وجل اليهود من فلسطين بعد إفسادهم الأول سبى الأشوريون والبابليون بعض اليهود إلى بابل ليتشتتوا بعد ذلك في ما وراءها من شعوب أسيا وسبي اليونانيون البطالسة بعضهم إلى مصر ليتشتتوا في ما وراءها من شعوب أفريقيا وسبى اليونانيون السلوقيون بعضهم إلى سوريا ليتشتتوا في ما وراءها من شعوب تركيا وأوروبا الشرقية وسبى الرومان ما تبقى منهم إلى روما ليتشتتوا في شعوب أوروبا وهرب بعض اليهود إلى الجزيرة العربية فسكنوا في المدينة المنورة وخيبر وبقي بعض منهم في فلسطين. ولا مجال في هذه المقالة لسرد ما تعرض له اليهود من قتل وتشريد ونفي على يد مختلف الشعوب على مدى ما يقرب من ألفي سنة بعد طردهم من فلسطين والتي لخصها القرآن الكريم في قوله تعالى “وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)” الأعراف. أما في التوراة فقد ورد ذكر هذا الشتات في أكثر من سفر من أسفارها كما في سفر اللاويين “33وَأُذَرِّيكُمْ بَيْنَ الأُمَمِ، وَأُجَرِّدُ وَرَاءَكُمُ السَّيْفَ فَتَصِيرُ أَرْضُكُمْ مُوحَشَةً، وَمُدُنُكُمْ تَصِيرُ خَرِبَةً.” وفي سفر التثنية ” فَتُسْتَأْصَلُونَ مِنَ الأَرْضِ الَّتِي أَنْتَ دَاخِلٌ إِلَيْهَا لِتَمْتَلِكَهَا. 64وَيُبَدِّدُكَ الرَّبُّ فِي جَمِيعِ الشُّعُوبِ مِنْ أَقْصَاءِ الأَرْضِ إِلَى أَقْصَائِهَا،”.

وعندما احتل الرومان فلسطين في عام 64 قبل الميلاد قاموا بمعاملة اليهود معاملة حسنة وفي تلك الفترة ولد يحيى بن زكريا عليهما السلام والمسيح عيسى ابن مريم عليه وعلى أمه السلام وقام اليهود كعادتهم بتحريض الرومان على قتل يحيى عليه السلام ومن ثم عيسى عليه السلام فقتلوا يحيى ونجى الله عيسى عليه السلام ورفعه الله إليه لم يقتل ولم يصلب. وبسبب ثورتهم على الرومان في عام 66م قام الرومان في عام 70 بعد الميلاد بقتل عدد كبير من اليهود وبهدم هيكل سليمان الثاني وسبي ما تبقى من اليهود إلى روما. وعندما دخل المسلمون بيت المقدس عام 638 م بعد طرد الرومان منها عقدوا صلحا مع سكانها المسيحيين الذين اشترطوا على الخليفة عمر بن الخطاب أن لا يسكن بيت المقدس يهودي فأجابهم إلى ذلك. ومع دخول المسلمين بيت المقدس بقي تحت حكمهم حتى عام 1967م باستثناء فترة احتلال الصليبيين لها وبهذا لم يخلف الله سبحانه وتعالى وعده لإبراهيم عليه السلام فقد أسكن بني إسماعيل عليه السلام في الأرض المقدسة بعد أن نكث بني إسرائيل عهدهم مع الله.

فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا

لقد بدأ العلو الثاني والأخير لليهود على الأرض المقدسة في عام 1948م عندما قاموا باحتلال أجزاء كبيرة من فلسطين وجزءا من بيت المقدس ومن ثم احتلوا بقية أجزاء فلسطين وكامل بيت المقدس في عام 1967م. وبما أن الله قد كتب الذلة على اليهود فإنه ما كان باستطاعتهم أن يقيموا دولتهم في فلسطين بأنفسهم ولذلك قدر الله أن تدعمهم بريطانيا وبقية الدول الغربية لإنشاء دولتهم ومن ثم قامت أمريكا بحمايتهم من خلال إمدادها بالمال والسلاح وذلك تصديقا لقوله تعالى “ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَمَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ” آل عمران وقوله تعالى “ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)” الإسراء. وقد ذكر القرآن الكريم عودة اليهود من شتاتهم إلى فلسطين في قوله تعالى “وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)” الإسراء. وتعبر كلمة لفيف في هذه الآية تمام التعبير عن طريقة جمع اليهود من شتى بقاع العالم ويسكنهم في فلسطين رغم اختلاف ألوانهم وأشكالهم وألسنتهم فلفيف القوم هو من جاء من خارجهم وسكن معهم لقول الأعشى “وقد علمت بكر ومن لف لفها”. أما التوراة فقد ذكرت عودة اليهود إلى فلسطين بعد شتاتهم في أكثر من موضع كما جاء في سفر التثنية الإصحاح الثلاثين ما نصه: 1« وَيَعُودُ فَيَجْمَعُكَ مِنْ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ بَدَّدَكَ إِلَيْهِمِ الرَّبُّ إِلهُكَ. 4إِنْ يَكُنْ قَدْ بَدَّدَكَ إِلَى أَقْصَاءِ السَّمَاوَاتِ، فَمِنْ هُنَاكَ يَجْمَعُكَ الرَّبُّ إِلهُكَ، وَمِنْ هُنَاكَ يَأْخُذُكَ، 5وَيَأْتِي بِكَ الرَّبُّ إِلهُكَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي امْتَلَكَهَا آبَاؤُكَ فَتَمْتَلِكُهَا، وَيُحْسِنُ إِلَيْكَ وَيُكَثِّرُكَ أَكْثَرَ مِنْ آبَائِكَ.

وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة

أما النبوءة التي ذكرها القرآن الكريم ولم تذكرها التوراة فهو مصير اليهود في العلو الثاني فقد أكد القرآن الكريم على أن الأمم المحيطة باليهود وهم العرب والمسلمون سيهزمون اليهود شر هزيمة ويحطمون هذا العلو تحطيما كاملا مصداقا لقوله تعالى “إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)” الإسراء. ودخول المسجد هو كناية عن استرجاع فلسطين من اليهود فالمسجد المعني هو المسجد الأقصى وهو الذي جاء ذكره في بداية سورة الإسراء في قوله تعالى “سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)” الأسراء. وجاء في نهاية سورة الإسراء على أن بعضا من علماء اليهود عندما يرون ما سيحل باليهود في فلسطين سيوقنون بأن هذا القرآن لا بد أنه منزل من عند الله عز وجل وذلك في قوله تعالى “قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108)” الإسراء. ويتضح من هذه الآية أن العلو الثاني لم يحدث قبل نزول القرآن وذلك لقوله تعالى عنه “إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا” فاللام في كلمة لمفعولا تفيد حدوثها في المستقبل بينما كان التعقيب على العلو الأول ” وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا”.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى