فلسطين قبل مجيء العبرانيين!

#فلسطين قبل مجيء #العبرانيين!
د. #أيوب_أبودية

تشير النصوص الدينية والتاريخية، مثل النص الوارد في سفر التكوين: “فَدَعَا إِسْحَاقُ يَعْقُوبَ وَبَارَكَهُ، وَأَوْصَاهُ وَقَالَ لَهُ: «لاَ تَأْخُذْ زَوْجَةً مِنْ بَنَاتِ كَنْعَانَ»* (تكوين 28:1)، إلى موقف سلبي من #الكنعانيين من قبل العبرانيين القادمين لاحقًا من مصر بقيادة موسى، ثم يشوع بن نون الذي هدم أريحا وقتل أهلها.

هذه العبارة تعكس أكثر من مجرد توجيه عائلي؛ فهي اعتراف بوجود الكنعانيين قبلهم وتعبير عن رفض ثقافي وديني وتاريخي عميق للجماعات الكنعانية التي كانت تستوطن أرض كنعان (فلسطين الكبرى) قبل أن يظهر ما يُعرف في الأدبيات الدينية بالشعب “الإسرائيلي”. فلماذا رفض العبرانيون الزواج من الكنعانيين؟

يرتبط هذا الرفض بعدّة عوامل، منها الاختلاف الديني العميق، حيث كان الكنعانيون يعبدون آلهة متعددة ويمارسون طقوسًا اعتبرها العبرانيون “وثنية” و”رجسًا” (بحسب سفر اللاويين وسفر التثنية)، مما جعل الزواج من نسائهم مرفوضًا دينيًا خوفًا من إدخال “الوثنية” إلى البيت العبراني.

مقالات ذات صلة

كذلك هناك التمييز العرقي والثقافي، فالنصوص التوراتية تميز بين “شعب الله المختار” و”الأمم الوثنية” أو “الآخر”، مما جعل العبرانيين يعتبرون الكنعانيين أدنى منزلة دينية وثقافية.

وهناك أهداف التوسّع والاستيطان، إذ اعتبر العبرانيون أن أرض كنعان “موعدة لهم”، وبالتالي أي ارتباط بسكانها الأصليين، مثل الزواج أو التحالف، كان يعوق مشروع “الفتح الإلهي” كما ورد في سفر يشوع.

الرفض الديني والاجتماعي للزواج من الكنعانيين لم يكن وليدًا للعادات أو الأعراف فقط، بل كان جزءًا من سياسة فصل هوياتي وديني عنصري وعنيف أسّست لصراع طويل في تاريخ المنطقة ما زلنا نشهده اليوم في أعنف صورة الاجرامية في غزة.

فالكنعانيون هم من أقدم الشعوب السامية التي استوطنت بلاد الشام منذ الألف الثالث قبل الميلاد. وقد امتدت ثقافتهم إلى الساحل الفلسطيني (من غزة حتى بيروت)، والداخل الفلسطيني (أريحا، القدس، نابلس)، وأجزاء من الأردن وسوريا ولبنان. وأنشأ الكنعانيون مدنًا محصنة ذات نظم حكم، وعبدوا آلهة مثل بعل، عشتار، إيل، وتحدثوا بلغة سامية قريبة من الفينيقية والارامية والعبرية القديمة.

أما الفينيقيون فهم فرع بحري من الكنعانيين سكن السواحل الشمالية (لبنان حاليًا)، واشتهروا بالتجارة والملاحة وصناعة الصباغ الأرجواني. وهم من وضع الأبجدية التي أخذتها عنهم اليونان. كانت لغتهم كنعانية وديانتهم مشابهة للكنعانيين الداخليين وكانت علاقتهم أحيانًا سلمية مع العبرانيين (مثل تحالف الملك سليمان مع حيرام ملك صور).

أما الآراميون فهم قوم سامي استوطن سوريا الداخلية والجزيرة، وتحدثوا الآرامية. وصاروا القوة الثقافية واللغوية في المنطقة، حتى أصبحت الآرامية لغة التجارة والدين وحتى لغة المسيح لاحقًا. والسريان هم الآراميون بعد تنصّرهم (أي بعد انتشار المسيحية). أطلق الرومان في البداية عليهم اسم “سوريّون” ثم تحوّلت إلى “سريان”.

وبناء عليه، فإن هذه الشعوب كلها تنتمي إلى العائلة السامية (أي من أصل سام بن نوح)، وتتحدث لغات متقاربة (كنعانية، آرامية، فينيقية، عبرية)، وتتشارك في جذور دينية وثقافية واحدة تداخلت فيما بينها عبر التحالفات والزواج والهجرات، مما يجعل فلسطين قبل اليهود فضاءً عربيًا كنعانيا فينيقيا اراميا مشتركًا.

ومن أبرز الأدلة على الجذور اللغوية المشتركة بين الفينيقية والكنعانية والآرامية هو التشابه البنيوي الكبير في المفردات والتراكيب والنظام النحوي، إذ تنتمي جميع هذه اللغات إلى الفرع الشمالي الغربي من اللغات السامية. على سبيل المثال، تتشارك هذه اللغات في الكلمات الأساسية مثل كلمة “ملك” (للملك) و”بيت” (للمنزل) و”إيل” (للإله)، كما تستخدم جميعها الأبجدية الفينيقية ذات الـ22 حرفًا، التي أصبحت لاحقًا أساس الأبجديات الآرامية والعبرية واليونانية التي انتقلت إلى أوروبا لاحقا.

فإذا كانت الأسطورة تحمل بعض الحقيقة، فهل يُمكن أن يكون “قدموس” Cadmios الفينيقي قد أدخل الأبجدية إلى اليونان خلال سعيه لإعادة أخته المخطوفة “أوروبا” Europa التي خطفها زيوس إلى اليونان، وذلك خلال تجواله في بلاد اليونان بحثا عن أخته.

فضلًا عن ذلك، تشير النقوش الأثرية، مثل نقش “أزر” الكنعاني ونقوش “بيبلوس” الفينيقية ونقوش “تل دان” الآرامية، إلى استخدام تعابير وأساليب لغوية متقاربة جدًا، مما يدل على الأصل اللغوي المشترك بينها، واختلافها لاحقًا نتيجة التمايز الجغرافي والثقافي لا البنيوي الجذري.

وبناء عليه يتبيّن أن أرض فلسطين كانت بالفعل كنعانية الأصل والتكوين الثقافي قبل أن يأتي العبرانيون إليها، سواء من مصر أو من مناطق أخرى، كما اكتشف كمال الصليبي في أطروحته “التوراة جاءت من جزيرة العرب”.

إن فهم هذه الجذور التاريخية يساهم في إظهار أن فلسطين لم تكن “أرضًا بلا شعب” كما زعمت بعض السرديات الحديثة، بل كانت أرضًا عامرة بشعوب سامية، من بينها الكنعانيون والفينيقيون والآراميون، الذين يمكن اعتبارهم اللبنة الحضارية الأولى للشعوب العربية في بلاد الشام.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى