
#ظاهرة_زهران_ممداني : حدث ام اتجاه؟
#وليد_عبد_الحي
لكي لا يلتبس الامر على البعض ، من الضروري الاشارة الى ان النظام الفيدرالي الامريكي يفرق وبوضوح بين حاكم الولاية(Governor) وبين عمدة المدينة(Mayor)، فحاكم الولاية هو السلطة العليا في الولاية ،مما يجعل كل مدن او مقاطعات الولاية ضمن سيطرته استنادا للنصوص الدستورية ،ويتم انتخابه من جميع سكان الولاية، وهو من يساهم في اقرار او رفض الهيئات التشريعية في ولايته ،،ويشرف على الحرس الوطني فيها ، وهو من يمثل الولاية امام الحكومة الفيدرالية ، بينما يقتصر دور العمدة على مدينة محددة ،ودوره في اتجاهه العام هو دور خدماتي( الاشراف على شرطة المدينة وتعيين مدراء الدوائر البلدية وتحديد ميزانية المدينة ومواردها…الخ)، ذلك يعني ان العمدة يخضع لحاكم الولاية والسلطة التشريعية للولاية.
وهنا يأتي التساؤل المهم: لماذا هذا الاهتمام بانتخاب عمدة نيويورك زهران ممداني؟ مع انه فوز “محلي كعمدة لمدينة”؟
في تقديري ان الاهتمام نابع من كون ممداني تعبيرا عن تأكيد لتنامي اتجاه(Trend ) اجتماعي سياسي يثير نقاشا واسعا في الادبيات الامريكية حول ” التحول البنيوي” في توجهات (Attitudes) المجتمع الامريكي بمضمون يبدو ان غايته “كسر احتكار” ما يسمى الواسب(WASP)( البيض-الانجلوساكسون-البروتستانت) لمراكز النفوذ وآليات الحراك الاجتماعي السياسي في المجتمع الامريكي.
ولكن ما هي مؤشرات هذا التحول؟
1- ان انتخاب ممداني هو تكريس لتوجه يتنامى منذ اكثر من عقد ،وهذا التوجه يتمثل في تزايد في تحولات عميقة تصيب الحزب الديمقراطي بخاصة في شرائح الشباب والاقليات والمنتمين لتيار اليسار التقدمي، واللافت ان هذا التيار يتمدد في عدد من المدن الأخرى.
2- تكرار المشهد لتقدم الشرائح الثلاث التي اشرت لها في مدن وازنة مثل نيويورك وشيكاغو وسان فرانسيسكو ولوس انجيلوس ،والتي تنزع نحو رفع الضرائب على الطبقات العليا بهدف تعميق العدالة الاجتماعية،بخاصة ان الولايات المتحدة هي الأسوأ بين الدول الصناعية في مؤشر غيني(Gini Index) لعدالة توزيع الثروة.
3- اتساع دائرة الطروحات الفكرية الخاصة بالعدالة الدولية ،وهي من ضمن اهتمامات التيار الجديد الذي يولي موضوع غزة ونهب افريقيا والتحرش بامريكا اللاتينة عناية كبيرة ويعتبره انتهاكا للعدالة الدولية.
4- يلاحظ ان وسائل التواصل الاجتماعي والتنظيم القاعدي(Grassroots) اضعف الهيمنة التقليدية للاحزاب التاريخية على المجتمع ،فالتنظيمات الشعبية وبتمويل يسير اصبحت قادرة على خلق قدر من التوازن النسبي مع احتكارات ” الواسب ” للفضاء الاعلامي.
ولكن هل من دلائل ميدانية على ما سبق ذكره؟ دعونا نتأمل في الأمثلة التالية:
أ- تولت “ميشيل وو” المهاجرة الآسيوية اليسارية رئاسة بلدية بوسطن بشعار العدالة والإسكان منذ 2021.
ب- تولى براندون جونسون الافريقي و المرشح النقابي اليساري عمدة مدينة شيكاغو منذ 2023
ت- تولت المرأة السوداء ” كارين باس” منصب عمدة لوس انجيلوس بشعار مكافحة التشرد والعدالة الاجتماعية.
ث- وصول تشيسا بودين لمنصب المدعي لسان فرانسيسكو ،وهو الاكثر تقاربا في توجهاته مع زهران ممداني.
ج- ظهور حركة ” Defund the Police” في مينابوليس التي تسعى لاعادة النظر في آليات العلاقة بين السلطات الامنية والمجتمع.
تلك أمثلة تدعمها مؤشرات تشير الى زيادة وزن المهاجرين والاقليات في المجالس المحلية والكونجرس ،وقد يكون ما يجري حاليا في بنية الحزب الديمقراطي مماثلا لنموذج دور حزب “Tea Party” في الحزب الجمهوري سابقا .
المستقبل:
من الضروري ادراك ان التحولات البنيوية لها ايقاع بطيء، وظاهرة التحول التي نشير لها بدأت بشكل واضح عام 2016 تحت ما اصبح يسمى “التيار التقدمي الحضري”، ولعل فوز ممداني مؤشر على ان هذا الاتجاه ما زال حيويا ،ويبدو ان القلق الشديد لدى ترامب من هذا التيار هو ما يفسر “ردة فعل اليمين الامريكي”.
من جانب آخر، فان ثقافة القوة التي تشكل سنام المنظومة القيمية الامريكية ، قد تعيد تكييف مطالب الكتلة” اليسارية المهاجرة الاقلوية” بشكل أطلت بعض ايحاءاته في كاليفورنيا قبل بضعه شهور(واشرت الى تداعيات ذلك)، بخاصة ان الاستقطاب الحالي لا يناظره في التاريخ الامريكي الا مرحلة ستينات القرن الماضي،وهو لا يقتصر على النخب بل يأخذ طابعا “عرقيا دينيا ثقافيا”،ويتعزز ذلك بتراجع في نسب الثقة الشعبية في المؤسسات السياسية الامريكية طبقا لاستطلاعات الراي العام الامريكي .
لكن الضوابط الامريكية غير غائبة عن تفكير المؤسسة الامريكية ، فبعد أحداث الكابيتول عام 2021 اصبحت قوى “الواسب” اكثر يقظة من الناحية الامنية وتساندها قوى الضبط الاجتماعي مثل النقابات والجامعات وبعض النخب الدينية.
ذلك يعني ان احتمالات العنف الرمزي امر وارد، لكن الحرب الاهلية تبقى بحاجة لاحتقانات اعمق ،وهو ما يعني ان الولايات المتحدة تتجه نحو ” عنف مزمن لكنه منخفض الكثافة “، اي ان مظاهر العنف الرمزي ستتزايد ومدفوعة بصراع هوياتي يجعل فكرة “بوتقة الصهر ” تتحول الى “تعددية متوترة”،وهو ما حذر منه صموئيل هنتينغتون عام 2004 في كتابه :Who We Are: Challenges to American National Identity
ولكن هل يؤثر ذلك على التوجه الخارجي الامريكي؟ ذلك ما سنبحثه لاحقا..


