
طبيب مع وقف التنفيذ
أنا الآن بلا عمل ، وبلا نقود ، أنا عالٌةٌ على أمي … جملة يقولها سعيد حزوم في رواية المرفأ البعيد للروائي الكبير حنا مينه.
قرأتها ألف مرة ، وكأن الكاتب يقصدني أنا بالذات وليس أحدا غيري ؛ فأنا الآن بلا عمل ، وبلا نقود ، وعالة على أمي أيضا بحكم وفاة والدي عندما كنت في السنة الجامعية الثالثة.
أنهيت دراستي بحمد الله وتوفيق منه . سررت أيما سرور بالحصول على الشهادة بعد تعب وكد وجهد وهممت بالعودة الى وطني العزيز . تجاهلت كل الناصحين ممن سبقوني بعدم العودة ، وحطيت كلامهم في الخرج لأنه (ما حد راح يقراه) مثلما يقول غوار الطوشة في مسرحية الغربة . وعلى سيرة الغربة : ليتني ما جيت ولا عن غربتي أقفيت … ليش ؟ لأنه ما دريت إنه وراء غربتي غربه ….. ما علينا
وصلت أرض الوطن سالماً غانماً حاملاً شهاداتي في حقيبتي اليدوية وباقي أغراضي في حقيبة الشحن . المهم رأتني أمي ولم تصدق فقبلتني بحرارة وركبنا السيارة وانطلقنا إلى القرية ، وأمي تهاهي وتزغرد وتغني وحدها في الطريق ! ظلت تهاهي حتى وصلنا خبر من القرية ان فلانة قد توفيت فسكتت أمي . ثم رن هاتف أخي مرة أخرى وثانية وعاشرة أن فلانةً قد توفيت فلا تصدروا أي صوت عند دخول القرية حتى زمور السيارة ممنوع ، مع أن أمي قطعت فرحتها وسكتت منذ أن وصلنا الخبر ونحن في عمان .
إنتهت مراسم الإستقبال وذهبت إلى عمان مرة أخرى وعادلت الشهادة وحصلت على موافقة من وزارة الصحة بعمل سنة الإمتياز في إحدى مستشفياتها بعد أن وقعت على تعهد بعدم المطالبة بأي تعويضات مالية ، لكن الحق يقال ؛ فالوزارة كانت كريمة معنا جداً ، هذا لم يقله لنا أحد في الوزارة لكننا استشعرناه بانفسنا – اقصد أطباء الامتياز – فقد أخبرَنا من سبقنا أن الوزارة الموقرة ستصرف لنا راتبا شهريا مقداره 97 ديناراً ، وسنستلم المبلغ بعد أن تطلع أرواحنا ، وقد صدقوا فقد استلمنا أول دفعه في شهر شباط مع أني بدأت في شهر تموز من السنة التي مضت . يا الله ! 97 ديناراً كم أنا محظوظ فقد رسمت أحلاما ومشاريع ولا أنكر أنني في صفنة واحدة بنيت مستشفى متخصص من هذه الدنانير ال 97
أنهيت سنة الإمتياز وتقدمت للإمتحان ونجحت . ثم حصلت على المزاولة الدائمة وكنت في غاية الإنبساط ، فقد أصبحت طبيبا مرخصا مسموحا لي بمزاولة مهنة الطب . ولم أعد أستشعر النفاق والسرسرة في الكلمة الملغومة عندما ينادونني يا دكتور .
لم أكن اعلم أن هذه بداية الجحيم … وأن أبواب الدنيا سوف تغلق في وجهي جميعها إلا باب الجحيم هذا … قالوا لي : والله غير تعوف ثيابك إذا بتروح جاي . فلم أصدق وعدت … ثم عفت .
إلى الآن لم أوفق بالحصول على عمل في أي قطاع عام أو خاص . فقررت أن أعمل في أي مكان ! عملت في مطعم فلافل . وبما أنني إبن قرية فقد طبلوا ورائي بحدايد وأصبحت سولافة على كل لسان مما اضطرني لترك العمل ولسان الحال يقول يلعن…
المهم قرأت إعلانات لعيادات خاصة في عمان فاتصلت بهم دون تردد وكان صاحب العيادة سخيا فقد أخبرني أنني سأتقاضى 7 دنانير مقابل 8 ساعات عمل وأنني سأحصل على شفتين بالأسبوع وعلى مزاج صاحب العمل . برضه مش مستاهله أزعل مع العلم أن أجرة الطريق من قريتنا إلى عمان والعودة يكلف 6 دنانير واصل للمجمع فقط .
يا أخي بعدني ما توظفت ولا نزل رقمي التنافسي على ديوان الخدمة والخدمات الطبية بعدهم ما طلبونا للامتحان . هذي المرة الألف صرت سائلني هالسؤال ومجاوبك نفس الإجابة … وبعدني ما تخصصت كمان . شو بدي اتخصص ؟ والله اللي بيجي من ربك مليح . بطلت أحلم ولا أفكر بتخصص معين .
يزم بدكيش تتجوز ؟ سؤال في الصميم وفي وقته ومحله ، لم يبق شخص في القرية إلا وسألني إياه حتى الحجة فزه قالت لي بالحرف : يا ميمتي صاير شعرك مثل الطحين ما تجوزك عاد بنت الحج خليل ؟ ! يا إلهي كم مجتمعنا رحيم ويقدر الوضع ، وقلبه طيب! شايل همي متى سأتزوج !!! طيب وين بدك تسكن بالقرية ولا باربد ؟ هذا سؤال ألعن من اللي قبله ! ياخي لا بالقرية ولا بإربد ، أنا بدي أهاجر إن شاء الله ، والله بدي أهاجر في أول فرصة لو على جهنم بدي أهاجر … يا أخي ارحمني . وما زالت المعاناة مستمرة …
شكرا لكل من ساهم بإيصالي إلى هذا الحال ، ومع ذلك أنا لست محبطا ولا يائسا ، أنا فقط مجرد طبيب مع وقف التنفيذ .