
صورٌ ومشاهد من #غزة بعد إعلان انتهاء العدوان (3)
تأهيل الشوارع وتعبيد الطرق واستعادة الحياة
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
لم يضيع مواطنو قطاع غزة وقتهم، ولم يتأخروا ساعةً عن العودة إلى مناطقهم، وبعث الحياة في قطاعهم المدمر من جديد، فما إن دخل اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، وربما قبل ذلك بساعاتٍ، حتى تدافع عشرات آلاف المواطنين عبر شارع الرشيد الساحلي، للعودة إلى مدينة غزة ومناطق الشمال التي أجبروا على النزوح منها، وتركوا بيوتهم فيها مكرهين بعد الحملة العسكرية الجديدة على مدينة غزة.
وتشير احصائيات غير رسمية، أن أعداد العائدين إلى غزة والشمال تزيد عن نصف مليون مواطن، فضلاً عن مئات آلافٍ آخرين بقوا في مناطقهم ولم يخرجوا منها، وقد نجح العائدون في الوصول إلى مناطقهم، مشياً على الأقدام، أو على العربات التي تجرها الحيوانات، ومن أسعفه الحظ وكان قادراً، فقد عاد بالسيارة إلى مدينة غزة وشمالها، وقد استغرقت عودتهم جميعاً ساعاتٍ طويلة، بالنظر إلى المخاطر التي كانت تعترضهم، وتهديد جيش العدو باستهدافهم وإطلاق النار عليهم، وفعلاً قام بقتل العشرات منهم خلال رحلة العودة.
لم ينتظر العائدون إلى بيوتهم ومناطقهم المساعدات الحكومية غير المتوفرة، بالنظر إلى قلة الإمكانيات نتيجة تدمير العدو لها، وكثرة المهام الموكلة بها، والتي تعجز عن القيام بها، ولا المساعدات الدولية الممنوعة بقرارٍ إسرائيلي وعجزٍ عربي ودولي، فبادروا بأنفسهم رغم الحزن الذي يكسو وجوههم، والألم الذي يدمي قلوبهم، والفقد الذي يكسر ظهورهم، إلى إزاحة الركام حول بيوتهم المدمرة، ونصب خيامٍ بسيطةٍ فوقها، علها تسترهم عند نومهم، وتقيهم برد الشتاء القادم، وتحميهم من الأمطار المرتقبة، وتنقذهم من غول غلاء استئجار بضعة أمتارٍ من الأرض في مناطق النزوح لنصب خيامهم فيها.
تعاون الجميع في إعادة الحياة إلى البيوت المدمرة، وتسوية الشوارع المخربة، وإزالة الركام من الطرق العامة، وتلك التي في الحواري والأحياء وبين البيوت والمنازل، لتيسير الوصول إلى مناطقهم، واشترك في تهيئة الأماكن وجمع ما بقي من حاجياتهم تحت الركام، الأطفال والنساء والشيوخ، إلى جانب الرجال والشبان، الذين تعهدوا المهام الصعبة والأعباء الثقيلة، فكانوا كخلايا النحل يعملون بدأبٍ وأمل، فالعودة إلى الديار عزيزة، والسكن في البيوت كرامة، والجلوس على أطلال المنازل وبقايا الحواري والأحياء سعادة، ولعل الفرحة التي كست الوجوه، والدموع التي ملأت المآقي والعيون، كانت دليلاً على الفرح والسعادة، رغم أن بعض سكان البيوت لن يعودوا إليها، وبعضهم ما زال مدفوناً تحت ركامها.
تعالت أصوات بعض السكان، تحدو الناس وتشجعهم، وترفع عقيرتها بالأناشيد والأهازيج، وتنادي عليهم وتتقدمهم، وتحثهم على العمل لإعادة إعمار مناطقهم، وبث الحياة فيها رغم أنف عدوهم، الذي دمرها وخربها وعاث فيها فساداً، إلا أن فرحة العودة إليها كانت أكبر، ولم يغب الأطفال عن المشهد، بل لعلهم كانوا أكثر الفرحين، وأشد المتحمسين، فتراهم يقفزون فوق الركام، ويعتلون ما بقي من الأسطح، ويحاولون التشبه بالكبار، والمساعدة في إزاحة الركام، وغيرهم يحمل الماء إلى أهله والعاملين، ويحاول المساهمة وتقديم شيء، وكأن العمل في هذا المكان شرف، والمنافسة فيه رفعة.
لم ينس العائدون إلى مناطقهم إعمار مساجدهم، وتهيئة مكانٍ لأداء الصلاة فيه جماعةً، والعودة إلى صلاة الجمعة التي حرموا منها طويلاً، ومنعوا من أدائها عامين كاملين إلا ما نذر وفي بعض المناطق لا في كلها، ولعل الفلسطينيون يعلمون أن المساجد تكيد العدو وتغيظه، ولهذا قصفها ودمرها، وأراد إزالتها وتعمد شطبها، فكانت هم العائدين الأول ومهمتهم المشتركة، فالمسجد هوية وعنوان، وهو رسالة ومنهج، وهو مدرسة وجامعة، ومنارة وهداية، ولعل سكان غزة يعيدون بناء كل المساجد التي دمرت وهدمت، ويستعيدون مسجدهم العمري العريق والهاشمي العزيز، وأكابر مساجدهم وأشهرها.
لن يتوقف الفلسطينيون عن العمل، ولن يفقدوا الأمل، ولن يمنعهم أحدٌ من إعادة تجذرهم في أرضهم وبقائهم فيها، فهم لن يخرجوا منها، ولن يتخلوا عنها، ولن يسمحوا للعدو باقتلاعهم منها، وهي التي رووها بدمائهم، وفيها يسكن عشرات الآلاف من شهدائهم، وفيها ذكرياتهم وحصاد أعمارهم، لهذا فإنهم سيعيدون إعمارها، وسيستعيدون ألقها، وسيرسمون وحدهم غدها، وسيقررون بأنفسهم مستقبلها، وسيعود قطاعهم أجمل مما كان، وسيندم عدوهم وسيموت من غيظه، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلبٍ ينقلبون.
يتبع …