
#صراع_البقاء*
في بحر السياسة الواسع، هناك من ينجو ومن يغرق، ومن لا يعرف كيف يسبح مع تيارات المصالح المتغيرة سيبتلعه التيار دون رحمة. والصراع الإيراني–الإسرائيلي هو خير مثال على هذه القاعدة التي تحكم لعبة الأمم. فمنذ سقوط شاه إيران عام 1979، حين تحوّل النظام الملكي إلى جمهوري إسلامي ثوري، بدأت صفحة جديدة من الصراع الممتد الذي لم تعرف له المنطقة مثيلاً. إيران التي لم تعد تكتفي بدور المراقب أو اللاعب الثانوي، بل صارت ترى إسرائيل العدو الأول، وبدأت بتعزيز نفوذها عبر دعم جماعات مسلحة كحزب الله في لبنان، وجماعات أخرى في سوريا والعراق واليمن، لتصبح بذلك حروب الوكالة سمة دائمة في المنطقة.
على الجانب الآخر، كانت إسرائيل تراقب هذا التمدد الإيراني بقلق متزايد، واعتبرته تهديدًا وجوديًا لا يمكن السماح له بالاستمرار. لهذا، عمدت إلى خوض مواجهات مباشرة وغير مباشرة، عبر ضربات جوية، وحملات استخباراتية، وتعاون استخباراتي مع دول أخرى، في محاولة لمنع أي تحوّل استراتيجي لصالح إيران. هذا الصراع الدموي، الذي يمتد لأكثر من أربعة عقود، لا يخضع لمبادئ السلام ولا للعواطف، بل هو لعبة قاسية للقوة والمصالح.
وفي عام 2025، تأخذ الأمور منعطفًا أكثر تعقيدًا. إيران لا تزال تمد أذرعها في أنحاء المنطقة، تستثمر في تحالفاتها وتوسع نفوذها، وتستغل الصراعات الداخلية في الدول المجاورة لتعزيز موقعها. إسرائيل، من جهتها، تستمر في استراتيجية الردع والهجوم الاستباقي، وتحشد دعمًا دوليًا خصوصًا من الولايات المتحدة الأمريكية. أما واشنطن، بعد عودة دونالد ترامب إلى الرئاسة، فتُعيد إحياء سياسة الضغط الأقصى على إيران، معتمدة على تحالف قوي مع إسرائيل، ورافضة أي تساهل قد يُفسح المجال لنفوذ إيراني أوسع.
ومن خلال نظرة نظرية الواقعية في العلاقات الدولية، نُدرك أن هذه المعادلة لا يمكن تفسيرها إلا عبر عدسة القوة والمصلحة. فالنظام الدولي، كما تقول الواقعية، فوضوي بطبيعته، لا وجود فيه لسلطة مركزية تحكم الدول أو تحميها. كل دولة تسعى لأن تبقى وتزيد من قوتها، لا تهمها المبادئ أو القيم بقدر ما تهمها حمايتها الأمنية والمصالح الاستراتيجية. إيران تدعم وكلاءها لأنها ترى في ذلك استثمارًا استراتيجيًا ضروريًا لبقائها، إسرائيل تدافع بقسوة لأنها ترى في أي تراجع تهديدًا لوجودها، وأمريكا، بقيادة ترامب، تعيد رسم ملامح المنطقة عبر فرض قوتها وحصار خصومها.
لكن رغم هذه الحرب الباردة الساخنة، الواقع يفرض نفسه. فحتى إيران، التي تبدو غير قابلة للانحناء، تدرك أن الانفجار الكامل سيكلفها الكثير، وربما قد يدمر ما بنته طوال عقود. من هنا، طاولة المفاوضات تبقى الخيار المحتمل، وإن كان مرًا، فهي محاولة للعبور من دوامة التصعيد التي قد تجر الجميع إلى مستنقع لا يخرج منه أحد بغير خسارة. وأمريكا، مهما صعدت من لهجتها، تدرك أن مصالحها تستوجب بقاء توازن هش في المنطقة، وعدم دفعها نحو جحيم لا مخرج منه.