
سباق #رئاسة_البرلمان_الأردني… امتحان لصلابة #الديمقراطية وتجسيد للشرعية الشعبية
بقلم: أ.د. محمد تركي بني سلامة
تتجه أنظار الأردنيين، هذه الأيام، نحو قبة مجلس النواب حيث يشتعل السباق على مقعد الرئاسة وأعضاء المكتب الدائم. سبعة نواب أعلنوا نيتهم الترشح مبكراً، بينهم أربعة من حزب واحد، وهو ما فجّر جدلاً واسعاً وحراكاً سياسياً ساخناً، وأشاع حالة من التوتر المبكر داخل المجلس. غير أن هذا التنافس، برغم ما يحمله من احتقان، لا ينبغي النظر إليه إلا باعتباره ممارسة سياسية أصيلة تعكس جوهر الديمقراطية وتجسد الشرعية الشعبية في أوضح صورها.
إن التنافس على رئاسة مجلس النواب ليس ظاهرة طارئة، بل هو علامة نضج سياسي ودليل على حيوية البرلمان. فحرية النائب في اختيار رئيسه وزملائه تمثل جوهر العمل النيابي، ومن دونها يفقد البرلمان هيبته ودوره. فالمجلس القوي هو المجلس الذي يقرر مصيره بنفسه، لا الذي يُدار بالوصاية أو يخضع للإملاءات.
لكن ما يثير القلق، ويستدعي التوقف عنده بجدية، هو بعض الأحاديث والإشاعات التي تخرج من هنا وهناك لتقزيم هذه الممارسة الديمقراطية. فقد سمعنا مؤخراً تصريحات نسبت إلى مسؤول كبير مفادها أن دائرة المخابرات العامة منعته من الترشح لعضوية مجلس النواب في انتخابات عام ٢٠٠٧ . مثل هذا الحديث، يضرب مصداقية المجلس في الصميم، ويهز صورة الدولة أمام شعبها والعالم ،ونامل ان لا يأتي يوم يقول فيه احدهم انه منع من الترشح لانتخابات رئاسة مجلس النواب. كما ظهرت إشاعة أخرى أكثر خطورة، تزعم أن جلالة الملك عبدالله الثاني هو من يختار رئيس مجلس النواب، وأن عملية التصويت ليست سوى “مسرحية شكلية”.
هنا لا بد من الوقوف وقفة حاسمة: جلالة الملك عبدالله الثاني، بحكم الدستور، هو رأس الدولة ورمز عزتها وسيادتها، وهو رئيس السلطات الثلاث، لكنه مصون من كل تبعة ولا يتدخل في التفاصيل الإجرائية لانتخاب رئيس المجلس. إن الزج باسم الملك في مثل هذه المزاعم يمثل إساءة لمكانته وتجنياً على مقامه الرفيع. وأداء رؤساء المجالس عبر السنوات كان متفاوتاً، ما يعني أن إرادة النواب هي وحدها التي تحسم هذه المنافسة. إن إقحام اسم الملك في هذه التفاصيل لا يسيء فقط لمقامه، بل يضعف ثقة المواطن بالمؤسسات، ويعطي صورة غير واقعية عن سير العملية الديمقراطية. الحقيقة الواضحة هي أن البرلمان يختار قياداته بنفسه، وهذا ما يجب أن يترسخ في وعي المواطن الأردني.
يمر الأردن بمرحلة إقليمية معقدة، مليئة بالتحديات السياسية والأمنية. وهذا يستدعي وجود مجلس نواب مستقل، قوي، يمارس صلاحياته الدستورية كاملة، لا مجلساً ضعيفاً مرتهناً للضغوط. المجلس الذي لا يملك قراره في انتخاب رئيسه وأعضائه لن يكون قادراً على حمل الرسالة الوطنية في هذه المرحلة الدقيقة، ولن يمثل الشعب تمثيلاً حقيقياً.
لقد رسم جلالة الملك عبدالله الثاني، من خلال أوراقه النقاشية، خارطة طريق واضحة للتحديث السياسي وبناء دولة القانون والمؤسسات. لكن نجاح هذا المشروع مرهون بقدرة كل مؤسسة سياسية، وعلى رأسها مجلس النواب، على تحمّل مسؤولياتها الوطنية بأعلى درجات الأمانة والوعي. الأجهزة الأمنية، بدورها، تقوم بمهامها الأساسية في حماية الوطن وصون سيادته، وهي بعيدة عن الدخول في الشأن الانتخابي أو النيابي. الأردنيون اليوم قادرون على إدارة شؤونهم العامة بوعي ومسؤولية، بعيداً عن أي وصاية أو تدخل.
إن الطريق لترسيخ الديمقراطية الأردنية وتعزيز مكانة الدولة يبدأ من إشاعة أجواء الثقة والشفافية بين الدولة ومؤسساتها من جهة، والمواطنين من جهة أخرى. وهذا يتطلب من النواب أن يمارسوا حقهم بحرية كاملة في انتخاب رئيس المجلس، وأن يختاروا الأكفأ والأقدر على تمثيل البرلمان بكرامة وهيبة، بعيداً عن أي ضغوط أو إملاءات.
في نهاية المطاف، يظل مجلس النواب الركيزة الأساسية في مسيرة الإصلاح السياسي ورافعة للدولة الأردنية الحديثة. وكلما مارس النواب حقهم باستقلالية، ازدادت الديمقراطية رسوخاً، وتعززت الثقة بالدولة ومؤسساتها. إن رئاسة المجلس ليست مجرد موقع بروتوكولي، بل هي موقع يختزل هيبة البرلمان ويمثل صورة الدولة أمام مواطنيها والعالم.
إن التنافس المحتدم اليوم هو فرصة تاريخية لتجذير التجربة الديمقراطية الأردنية، وترسيخ مبدأ أن الشعب هو مصدر السلطات، وأن النائب يمارس دوره بعيداً عن أي وصاية. هكذا فقط سيبقى الأردن، بقيادته الهاشمية وشعبه الواعي، نموذجاً في الاستقرار والقوة والشرعية، مهما تعاظمت التحديات.