رقصة الهاكا والدحيّة

رقصة الهاكا والدحيّة

د. #جودت_سرسك

تُعدّ #الرقصات_الشعبية أكثر من مجرد حركات إيقاعية؛ فهي #لغة تختزن #الذاكرة و #الهوية، وتتحول في لحظات الأزمات إلى وسيلة تعبير مكثفة عن التحدي ومنبراً للرفض والصمود.

 تبرز #رقصة_الهاكا لدى السكان الأصليين في نيوزيلندا، رمزاً دلاليًا في توظيف الجسد والصوت كأداة مقاومة رمزية

حيث تتألق سيمفونيةً للجسد في مواجهة التحدي وإبراز طابع الهوية وملامح الشموخ.

نشأت الهاكا كرقصة تقليدية بوصفها طقسًا جماعيًا للتعبير عن القوة والوحدة والاستعداد للمواجهة، تعتمد على تناغم متناه بين الأيدي والأقدام، وضربات إيقاعية للأرض، وتعبيرات وجه حادة، وهتافات جماعية متكررة.

لم تكن الهاكا حكرًا على ساحات القتال تاريخيًا، بل اتسع حضورها ليشمل المناسبات الوطنية والرياضية، في إشارة إلى أن التحدي هنا ليس عنفًا، بل إعلان وجود واستعادة كرامة جماعية.

وفي الصورة المقابلة تتعالى رقصة الدحيّة الأردنية لتعبّرَ عن الإيقاع الوطني وخطابِ الغضبِ والكرامة، حيث تمثّل الدحيّةُ إحدى أبرزِ الرقصاتِ الشعبية في الأردن، وخصوصًا في البادية، تقوم على صفوف متقابلة، وإيقاع ثابت بالتصفيق وضرب الأقدام، مع ترديد الشِّعر والهتاف.

يتحوّل الجسدُ في الدحيّة كما في الهاكا إلى أداةِ خطاب، تُترجِم المشاعرَ الجمعيّة مِن الفَخرِ إلى الغضب، بلغة إيقاعية.

تُستحضر رقصةُ الهاكا في البرلمان النيوزلندي للتعبير عن السُّخط والغضب العارمِ تُجاه ما يحدث في غزة وتجاهَ الموقف الحكومي النيوزلندي، وكذلك رقصة الدحيّة تتعالى في سياق غضب النواب الأردنيين تحت قبة البرلمان صفٌّ واحد، صوتٌ مرتفع، وإيقاعٌ موحّد يعكس موقفًا وطنيًا حازمًا.

 في لحظات التهديد المتزايدة من الجانب الصهيوني والتلويح بقطع مصادر المياه والتلميح بدخول جبال السلط والكرك والأغوار يتكاتف النوّاب الأردنيون ويتعالون عن همومهم الصغيرة ليعلوا من شأن الوطن ويصطفون ويزمجرون بنبرة حادة، ورسالة واضحة بأن الكرامة الوطنية خط أحمر.

 حين تضيق اللغةُ السياسية التقليدية، يتقدم الجسد رقصًا أو تشبيهًا ليقول ما لا يُقال.

تتعالى الصيحاتُ في الدحيّة الأردنية:

حيَّ الله مَن لفانا   حيّ الله ربعي حيّه

حيّه… حيّه… حيّه     حي الله من لفانا

حنّا هَلِ العوجا ما نميلْ   وقتِ الشدايِد نِعتلي الخيلْ

حنّا هَلِ العليا وهَلِ الراي   نرخّص الأرواح لجْلِ الدار

يرتدي المؤدون الزيّ الوطني الأردني: الشماغ الأحمر أو الأبيض، والعقال الذي يثبّت الرأس كما تثبّت القيم، والثوب أو العباءة التي تحمل رائحة البادية والملح والقيصوم.

 الزي ليس مظهرًا احتفاليًا، بل نصًّا بصريًا يقول إن الإنسان امتداد لأرضه، وإن الوقفة ليست حركة عابرة، بل جذور ضاربة في التاريخ.

التصفيق في الدحية ليس تصفيق فرح فقط؛ هو نبض جماعي، وضرب الأقدام على الأرض تذكيرٌ صامت بأن هذه الأرض تعرف أصحابها، وتحفظ خطاهم، وتردّد أسماءهم حتى لو غابوا.

وفي الجهة الأخرى من الوجع، تقف الميجانا الفلسطينية، لا في صفوف جسدية صارمة، بل في صفوف الصوت والحنين. غناءٌ يتكئ على المقام، ويطيل النفَس، كأن المغنّي يخشى أن ينتهي الصوت قبل أن يقول كل ما في القلب.

ترتبط الميجانا الفلسطينية بالأرض ارتباط الوسم بالجسد؛ تُغنّى في الأعراس، في الحقول، وفي المنفى.

 هي ابنة التراب والزيتون، تخرج من الحلق محمّلة بأسماء القرى، وأطلال البيوت، ورائحة الخبز الذي لم يبرد بعد.

في الميجانا، لا تُضرب الأرض بالقدم، بل تُستدعى بالكلمة والإيقاع وحرّ الأنفاس، ولا يُعلن التحدي بالصوت العالي، بل بالإصرار على الغناء رغم الفقد والتهجير.

الدحية تُجسّد الحضور، والميجانا تُقاوم الغياب، الدحية تقف على الأرض بثبات، والميجانا تحمل الأرض في الصوت حين تُسلب من تحت القدمين.

حين نذكر فلسطين، لا نذكر اسمًا على خريطة، بل حكاية وطنٍ سُرقَ ولم يغِب، ضاعتِ الأرضُ، وتشرّد أهلُها، لكنّ الصوت بقي.

بقي في الميجانا، في الزغاريد المكسورة، في الأغاني التي تُغنّى في المنافي وكأنها مفاتيح بيوت لم تُغلق يومًا، خبأتها الجدّة في مستور صدرها وعبّها الكنعاني وحكاياتها لأحفادها ليلاً حين يغيب القمر.

إن هتافَ الحرية في فلسطين ليس صاخبًا دائمًا مثل هتاف الهاكا والدحيّة الأردنية؛ يأتي همسًا في أغنية، أو بكاءً في مقام، أو بيتًا شعريًا يُردَّد كي لا تموت الذاكرة.

عاشت الهاكا النيوزلندية وعاشت الدحيّة الأردنية وعاشت فلسطين حرّة عربية من الهاكا إلى الهاكا ومن الميجانا إلى الدحيّة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى