ديناميكيات الدافعية في تعلم اللغة العربية للناطقين بغيرها

#سواليف

#ديناميكيات #الدافعية في تعلم #اللغة_العربية للناطقين بغيرها

عبد البصير عيد (كاتب وخبير تربوي)
يجد معلمو العربية للناطقين بغيرها أنفسهم أمام تحدٍ مزدوجٍ ومُلهم في آنٍ واحد: أن يعلّموها علمًا، ويغرسوا فيها روحًا؛ فهي ليست مجرد نظام لغوي، بل جسرٌ إنسانيّ يربط المتعلّم بالثقافة والهوية. ورغم أهمية المناهج والتقنيات، فإن ما يحدّد نجاح التجربة التعليمية في جوهرها هو الدافعية؛ تلك الطاقة الداخلية التي تدفع المتعلّم إلى المضيّ قُدمًا، وتجعله يختار المحاولة على حساب الانسحاب أو التوقف.
أثبتت الدراسات الحديثة أن الدافعية ظاهرة ديناميكية تتغيّر بتغيّر العوامل النفسية والاجتماعية والوجدانية المحيطة بالمتعلّم. وهنا يبرز دور المعلّم في قراءة هذه التحوّلات واستثمارها في بناء بيئة تعلّمٍ محفّزةٍ تنبض بالحياة.
فلم تعد الدافعية تُفهَم اليوم كقوةٍ خطّيةٍ تبدأ بالحماس وتنتهي بالملل، بل كمنظومةٍ تتحرّك على شكل موجات. ففي أحد الأيام قد يشعر الطالب بشغفٍ كبير لتعلّم تراكيب جديدة، وفي اليوم التالي قد يعجز عن التفاعل بسبب الإرهاق أو القلق اللغوي. تتأثر هذه الموجات بعوامل متداخلة: صورة المتعلم عن ذاته، والدعم الذي يتلقاه من المعلّم، وطبيعة التفاعل داخل الصف، بل وحتى الإحساس بالانتماء إلى المجتمع اللغوي الجديد. لذلك، يتعيّن على المعلّم أن يتعامل مع الدافعية كرحلةٍ مستمرةٍ بين المدّ والجزر، لا كمشكلةٍ تحتاج إلى حلٍّ فوري.
إنَّ تعلّم أيِّ لغةٍ مكتسَبةٍ يتجاوز حدودَ حفظِ المفردات أو قراءةِ النصوص بهدف النطق الصحيح؛ فهو فعلٌ أعمقُ وأسمى من ذلك بكثير. فاللغة الثانية تُفتح أمام المتعلّم بوصفها بوابةً إلى ثقافةٍ جديدةٍ وحياةٍ مختلفة، وسبرًا لأغوارها الإنسانية والمعرفية، ونافذةً تُوسِّع آفاقه وتعمِّق فهمه للعالم من حوله. وهي في الوقت نفسه وسيلةٌ لاكتشاف الذات من خلال الآخر، وجسرٌ يربط بين العقول والقلوب، ويمنح المتعلّم قدرةً على الانتماء إلى عالمٍ أرحب وأكثر تنوّعًا. ومن هذا المنطلق، يُعَدّ تعلّم اللغة العربية للناطقين بغيرها تجربةً إنسانيةً وثقافيةً تمسّ الهُويّة والانتماء، وتجسّد لقاءً حيًّا بين الإنسان واللغة بما تحمله من معنى وثقافة وحياة.
تلعب المشاعر دورًا محوريًا في تشكيل الدافعية؛ فالفَرَحُ يولّد الفضول، والقلق يُجمّد الرغبة، والشعور بالأمان يفتح آفاق التعبير. وحين يشعر المتعلّم أن معلمه يرى جهده لا أخطاءه، تنمو لديه الرغبة في الاستمرار. إن بناء علاقةٍ إنسانيةٍ قائمةٍ على الاحترام والتقدير يجعل الصفَّ مساحةً آمنةً للتجريب اللغوي، فيتحوّل الخوف من الخطأ إلى فرصةٍ للفهم، ويصبح كل إنجازٍ صغير خطوةً نحو الثقة بالنفس.
يمكن للمعلّم أن يستثمر الذكاء العاطفي في قراءة الإشارات الدقيقة للدافعية، فيوازن بين التحدي والدعم، ويقدّم تغذيةً راجعةً تشجّع ولا تُحبط. وفي الوقت نفسه، تتيح التقنيات الحديثة وأدوات الذكاء الاصطناعي فرصًا جديدة لتعزيز حماس المتعلّمين. فمنصّات التعلّم التفاعلية التي توفّر تغذيةً راجعةً فورية تجعل الطالب يشعر بإنجازه لحظةً بلحظة، والتطبيقات الذكية التي تقيس مستوى التقدّم وتقترح أنشطةً مخصّصة تمنح كل متعلّم مسارًا شخصيًا يناسب قدراته وسرعته. أما المحادثات الآلية (Chatbots) المصمّمة لتعليم العربية، فتساعد المتعلّم على التدرّب في أي وقتٍ دون خوفٍ من الخطأ أو التقييم، مما يرفع ثقته بنفسه. كما يمكن للمعلّم أن يستخدم التحليلات الرقمية لمتابعة تطوّر طلابه واكتشاف لحظات الفتور مبكرًا، فيتدخّل بأسلوبٍ داعمٍ يعيد تحفيزه. فالتقنية لا تصنع الدافعية، لكنها تُضيء الطريق أمامها وتمنحها لغةً جديدةً للتعبير. إن البيئة التي تمتزج فيها الرعاية الإنسانية بالتجديد التقني هي القادرة على تحويل تعلّم اللغة من مهمةٍ إلى شغف، ومن منهجٍ إلى رحلة اكتشافٍ ذاتي وثقافي.
وعند التأمل في مفهوم الدافعية في سياق تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها، يمكن النظر إليها بوصفها عمليةً مستمرةً تتفاعل فيها العوامل الشعورية والتجريبية لتوجّه سلوك المتعلّم نحو التعلّم والإنجاز. ومن هذا المنظور، يغدو تعليم العربية مشروعًا تربويًا يتجاوز حدود الإتقان اللغوي ليعبّر عن رؤيةٍ ثقافيةٍ وتربويةٍ أعمق، تُسهم في تنمية الدافعية الداخلية لدى المتعلّمين، وتعزيز رغبتهم في التواصل الإنساني عبر اللغة.

وتُقدَّمُ العربية في هذا الإطار منظومةً لغويةً وثقافيةً متكاملة تجمع بين البُعد المعرفي والتواصلي، وتعمل على بناء هوية المتعلّم وتوسيع أفقه في فهم العالم من حوله، من خلال تجربةِ تعلّمٍ تتداخل فيها الأبعادُ المعرفيةُ والثقافيةُ والوجدانيةُ على نحوٍ يربط بين اللغة والإنسان، وبين الكلمة والحياة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى