
#دق_سلف .. حنينٌ ورغبة في التغيير
#مهند_الهندي / دبي
ألا ليت الزمن يرجع ورا ولّا الليالي تدور
إذا أتيح للزمن بأن يعود بنا إلى الوراء، ونجد أنفسنا في “بيت العيلة” بيت مختلف في نقاءه وصدقه وعفويته، ننتظر عودة الوالد، مصدر الأمان والسكينة والبهجة إلى المنزل، ننتظر بالقرب من نافذة المطبخ وكعادتها أمي تحضر طعام الغداء، نتلهف “للمة العيلة” حيث يكون للوقت طعم آخر وكأن اللحظات تأخذ نكهة خاصة لا تشبه غيرها. تبدأ الحكاية من لحظة التحضير حيث تمتزج الضحكات مع أصوات الأطباق ورائحة الطعام التي تملأ المكان. كل يد تمتد للمساعدة تحمل معها حبآ غير مشروط وكل كلمة عابرة تخبئ دفئآ لا يوصف. حول طاولة الطعام لا يكون الطعام وحده هو البطل بل الأحاديث التي تنساب بعفوية والعيون التي تلمع بالسعادة والقلوب التي تقترب أكثر. تذوب الخلافات الصغيرة وتبقى المحبة خالصة كما هي، الوقت يمضي سريعآ لكن أثره يبقى طويلآ في الروح وكأن اللقاء كان رحلة قصيرة إلى عالم الصفاء والطمأنينة، في لمة العيلة نحن لا نأكل فقط بل نرتوي حبآ وطمأنينة.
إن أول ما نواجهه ونحن نسترجع تلك اللحظات هو سيلٌ من المشاعر المتناقضة. مزيج من الحنين العميق، حيث الحنين وجعٌ عشوائي لا يستأذن من أحد· لا شيء أوجع من الحنين لأيام قد خلت، وولت والندم على ما مضى، والرغبة في استعادة لحظاتٍ أهملناها ولم نقدّرها حق قدرها في حينها.
العودة إلى الماضي تعني العودة إلى ضحكات الإخوة، ودفء الأم، وحكمة الأب. تلك التفاصيل الصغيرة التي بدت مألوفة في حينها، أصبحت مع مرور الأيام كنزا ثمينا يتمنى المرء لو استطاع استعادتها.
عشنا حياة بسيطة، صنعنا فيها ألعابنا بأيدينا، اذكر أنني كنت أحب ممارسة لعب كرة السلة، ولم يكن أمامي خيار آخر غير أن أصنع ما أحب بيدي، فوق منزلنا القديم (سطح المنزل) خرجت إحدى الحدائد من ارتفاع عال يحمل خزانات المياه، ولشدة تعلقي بما احب فكرت بأن أصنع من قطعة الحديد هذه حلقة دائرية تشبه حلقة كرة السلة، هذه الحلقة ببساطتها جمعتني مع إخوتي وأبناء عمومتي بأجمل لحظات عشناها سويا، فيها لمة الأحباب وشقاوة الأصحاب.
من منا لم يندم على كلماتٍ قاسية خرجت في لحظة من الغضب، أو قرارات اتخذناها بتسرع، بناءً على مشاعر لحظية دون تحديد الاتجاه الصحيح، وحصاد نتائجها ما زال يطرح ثماره، ومن منا لم يندم على مواقف كان يمكن التعامل معها بحكمةٍ أكبر. هنا يأتي ألم الندم، الندم على ما فات، والسؤال هو لو عاد بنا الزمان هل كنا سنحسن الاختيار هل كنا سنتخذ قرارات صائبة، هل كان باستطاعتنا تحديد ماذا نريد، أم هى اقدارنا وليس لنا فيها اختيار.هذه المواقف تجعلنا نتمنى بأن يعود بنا الزمن، لنمنح أنفسنا فرصة لإعادة التفكير وتقييم الأمور، نتجنب ما هو تقليدي في التعامل مع أي مشكلة وابتكار حلول جديدة في التعامل معها. فلو أمعنا النظر في هبة الخالق لنا لأدركنا نعمة العقل الذي منحه الله لنا وميزنا به عن سائر مخلوقاته.
لو أُتيح المجال، قد يسعى المرء لتقديم النصيحة لوالديه، أو محاولة تصحيح خطأ قديم، أو حتى إعادة بناء علاقة انقطعت. فالماضي، مهما بدا بعيدًا، يظل مساحة خصبة للأمنيات غير المكتملة، الأهم من ذلك أن هذه العودة الافتراضية تعلّمنا قيمة اللحظة، ما كان يومًا عاديًا، يصبح اليوم ذكرى تُبكينا شوقًا. إدراك هذه الحقيقة يفتح الباب لتقدير ما نملكه الآن قبل أن يتحوّل إلى مجرد ماضٍ آخر رغم أن العودة بالزمن حلم مستحيل، إلا أن معناه واضح إعادة النظر في القرارات الحياتية بعين المسؤولية، منح العائلة والأحبة وقتًا أكبر، الإصغاء أكثر، والاعتذار عند الخطأ، تقدير اللحظات الصغيرة التي قد تصبح في الغد أعظم الذكريات، في النهاية، “الزمن” لا يعود، لكن أثره باقٍ. وما بين الحنين والندم، تظل الرسالة الأهم : لنُحسن عيش الحاضر، حتى لا نُحمّل المستقبل حسرات الماضي.