
#دبلوماسية_الملك: #الاعتراف_بفلسطين و #معادلة_الأمن
أ.د #امجد_الفاهوم
في نيويورك، يواصل الملك عبد الله الثاني تحركه المكثف على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، حاملاً خطاباً استراتيجياً يتجاوز الطابع البروتوكولي إلى هندسة سياسية جديدة تسعى إلى تحويل الاعتراف بالدولة الفلسطينية من مجرد مطلب قانوني إلى رافعة لأمن إقليمي ودولي. فقد عقد لقاءات مهمة مع قادة دوليين بينهم رئيس الوزراء الأسترالي أنطوني ألبانيزي، ورئيس المجلس الأوروبي أنطونيو كوستا، والرئيس القبرصي نيكوس خريستودوليدس، في مسعى يعكس تناغماً بين الدبلوماسية الأردنية والجهود الغربية المتصاعدة نحو تكريس حل الدولتين كخيار وحيد لضمان الاستقرار.
اما اللقاء مع ألبانيزي فقد بدا كنقطة ارتكاز أساسية، حيث ثمّن الملك الموقف الأسترالي الأخير بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، وهو اعتراف يتجاوز رمزيته ليُظهر أن العالم الغربي بدأ يعيد النظر في معادلاته التقليدية أمام مأساة غزة وتعثر عملية السلام. بالنسبة للأردن، يمثل هذا التحول خطوة جوهرية نحو منع سيناريوهات تهجير قسري أو تصعيد غير محسوب على حدوده الغربية، وهو ما يرتبط مباشرة بالأمن القومي الأردني واستقراره الداخلي. ومن خلال هذا اللقاء، أعاد الملك التأكيد أن الاعتراف لا يقتصر على دعم الفلسطينيين سياسياً، بل يترجم إلى إجراءات عملية تضمن ممرات إنسانية أكثر أمناً، وإعادة إعمار بشراكة دولية، وتثبيت أدوار مؤسسية للسلطة الفلسطينية الشرعية.
أما اللقاء مع رئيس المجلس الأوروبي أنطونيو كوستا، فقد وضع الأردن في قلب النقاش الأوروبي حول مستقبل المنطقة. فالملك يدرك أن الاتحاد الأوروبي يمتلك أدوات ضغط مالية وسياسية يمكن أن تحول الاعتراف بفلسطين إلى برنامج دعم اقتصادي وإداري شامل، يعزز بناء مؤسسات فلسطينية قادرة على الصمود أمام الضغوط، ويمنح الأردن بدوره شريكاً مستقراً يخفف عنه أعباء الضغوط الأمنية والديموغرافية. هذه المقاربة تترجم الرؤية الأردنية بأن الاعتراف ليس مجرد تصويت في الأمم المتحدة، بل مدخلا لإعادة هندسة التوازنات في شرق المتوسط، بما يشمل ملفات الطاقة، والتجارة، والممرات البحرية، التي تشكل بدورها عناصر حساسة في معادلة الأمن القومي الأردني.
في حين ان اللقاء مع الرئيس القبرصي نيكوس خريستودوليدس قد أضاف بعداً جيوسياسياً آخر، إذ إن قبرص تمثل بوابة للضغط القانوني والسياسي داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن كونها شريكاً في منظومة الطاقة في شرق المتوسط. وعليه فالأردن هنا ينسج شبكة من العلاقات تضمن ألا يبقى الاعتراف مجرد خطاب أخلاقي، بل يتحول إلى جزء من منظومة مصالح إقليمية ودولية ترفع كلفة استمرار الاحتلال وتفتح أفقاً لتسوية أكثر استدامة.
بهذا المشهد، تبدو دبلوماسية الأردن اليوم معقّدة ومدروسة في آن واحد فهي من باب تقوم على توظيف الزخم الأسترالي والأوروبي لتوسيع كتلة الاعتراف الدولي، وربط هذا الاعتراف بمفاهيم الأمن والاستقرار، وتحويله إلى أدوات عملية تعالج ملف المساعدات والحوكمة والمراقبة الأممية. وفي الوقت نفسه، يضع الأردن الاعتراف في صلب أمنه القومي باعتباره حاجزاً أمام ضغوط التهجير وملف “الوطن البديل”، ومفتاحاً لتخفيف مخاطر الانفجار الإقليمي الذي يهدد موارده الاستراتيجية من ماء وغذاء وطاقة.
إن ما يصنعه الملك عبد الله الثاني اليوم في نيويورك هو أكثر من مجرد تحرك دبلوماسي موسمي، بل هو بناء معادلة سياسية و جيوستراتيجية تُعيد الاعتراف بالدولة الفلسطينية إلى دائرة الفعل، وتربطه مباشرة بترتيبات الأمن القومي الأردني، في لحظة إقليمية مضطربة تتطلب وضوح الرؤية وحسن إدارة التحالفات. وبهذا، يثبت الأردن أنه قادر على تحويل رمزية الخطاب الدولي إلى برنامج عمل واقعي يحمي استقراره الداخلي ويعيد للقضية الفلسطينية زخمها على الساحة العالمية.