خاطرة

خاطرة

د. #هاشم_غرايبه

يقول الكواكبي في كتابه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد): “ما من #حكومة عادلة تأمن المسؤولية والمؤاخذة، بسبب غفلة الأمّة أو التَّمكُّن من إغفالها، إلاّ وتسارع إلى التَّلبُّس بصفة #الاستبداد، وبعد أن تتمكَّن فيه لا تتركه، وفي خدمتها إحدى الوسيلتين العظيمتين: جهالة الأمَّة، والجنود المنظَّمة”
لماذا كلما حدث #هيجا_ شعبي في أي من أقطار العرب احتجاجا على تعاظم #طغيان وفساد حاكم، نرى العسكر يبادرون فورا الى التحرك بذريعة الإستجابة لرغبات الشعب، فيما يكون الأمر في حقيقته تغيير بيدق بآخر؟.
لفهم هذه الحالة يجب أن نستعيد أحداث القرن المنصرم، فبعد أن وجد المستعمرون الأوروبيون أن احتلالاتهم العسكرية للوطن العربي عالية الكلفة، ويمكن تحقيق مبتغاهم في السيطرة السياسية والإقتصادية بكلفة ضئيلة، من خلال تنصيب أنظمة حكم محلية ملتزمة بتحقيق مصالحهم، خرجت جيوشهم، لكي يتهيأ للشعوب الثائرة أنها دخلت في مرحلة التحرر الوطني، ولتجميل صورة الأنظمة الموكل إليها إدارة البلاد.
لكن وزيادة في الإحتياط أبقيت المفاصل الرئيسة في يد (مستشارين) أجانب، وأهمها الجيوش الوطنية.
تمت تنشئة الجيوش والأجهزة الأمنية، بحيث تحقق حماية النظام الحاكم، طالما التزم بمتطلبات الغرب وهي منع توحد الأمة من جديد تحت يافطة الإسلام.
لذلك بنيت عقيدتها القتالية على الولاء للزعيم، وتمت تهيئة القيادات في دورات ومعاهد غربية لضبط الإلتزام بهذه المعايير، وعزل عقولهم عن الفكر الإسلامي والولاء للأمة، لأنهما أمران متلازمان، فالمسلم يتخطى عقله حدود (سايكس بيكو)، وانتماءه يكون للأمة وليس للقطر، وولاءه لله وليس للزعيم.
لذلك يحرص النظام على منع انتشار الفكر الإسلامي في صفوف العسكريين، لأن ذلك سيؤدي الى وحدة الأمة من جديد، أي قيام دولة إسلامية قوية مستقلة القرار، مما سيشكل بلا شك تهديدا جديا لمصالحهم.
وحتى لا يحدث فراغ فكري لدى المهيئين لتولي القيادات العسكرية والأمنية، فقد أشغلتهم بالاستثمارات المالية، بعد أن تشربوا بالمبادئ الغربية: الليبرالية والبراغماتية.
في النصف الثاني من القرن العشرين شهد العالم انقلابا في موازين القوى، فقد أفل نجم امبراطورية بريطانيا العظمى، وباقي الدول الأوروبية الإمبريالية بعد الحرب العالمية الثانية، لتحل محلها الإمبراطورية الأمريكية.
لذلك بدأت ولاءات الأنظمة العربية تتحول تباعا نحو أمريكا، كوريثة وحيدة للتركة الإستعمارية، ورافق ذلك تحول ولاء إدارات الجيوش والأجهزة الأمنية الى الأمريكان.
هكذا ورثت أمريكا صمامي أمان اثنين وجدتهما مسبقي التجهيز في يدها: مدني هو الزعيم ورهطه، وعسكري هو الجيش والمخابرات، فإن أفلت الزمام من يدها في الصمام المدني عالجته بالعسكري.
من ذلك يمكننا فهم كثير من الأحداث التي جرت في وطننا العربي خلال القرن المنصرم، ففي مصر حينما رفض الملك فاروق التحول عن ولائه لبريطانيا العظمى، وعلمت أمريكا بوجود حركة تمرد “الضباط الأحرار”، اخترقته بواسطة بعض عملائها وتولت تسهيل نجاحه، بدليل اكتشاف عبد الناصر أن السفير الأمريكي فقط هو الذي كان على علم بموعد الثورة.
وعندما قام العدوان الثلاثي، كان نجاحه العسكري محققا لولا التدخل الأمريكي، فنكص الغزاة على أعقابهم خاسئين، ليس عن انهزام عسكري، بل سياسي أمام أمريكا عندما وجدوها جادة في إنذارها.
في الأردن حدث التحول في الولاء من بريطانيا الى أمريكا عام 1956 بسلاسة، إذ تم تشجيع التظاهر للمطالبة بطرد القيادة البريطانية الممثلة بـ “كلوب”، وصدق الساذجون أن قرار الإستغناء عن خدماته جاء استجابة لمطالبهم.
في العراق الذي تمسكت بريطانيا به طمعا بنفطه، فقامت بإنشاء حلف بغداد لربط الأنظمة الموالية لها بها، فوجدت أمريكا الحاجة لاستخدام العسكر مرة أخرى في انقلاب 1958 .
ولو استعرضنا كل التغييرات الدراماتيكية التي في المنطقة العربية في تلك المرحلة من انقلابات عسكرية سميت ثورات، رغم أن الشعب لم يكن يعلم بوقوعها إلا بعد سماعه بلاغ رقم واحد من الإذاعة، نجد أنها استخدام للصمام العسكري أو للمدني أو كليهما معا.
من هنا نفهم سببا رئيسا من أهم أسباب تأخر نهضة العرب، فالعسكر وظيفتهم قتالية نقيض للسياسية، وفي الديمقراطيات الحديثة لا يوجد لهم أي دور سياسي، فقائد الجيش العسكري يتبع لوزير الدفاع المدني، ومتى ما تم تجاوز ذلك كان فسادا في السلطة، وإن وصل الأمر الى تسلمهم السلطة، أصبح الأمر استبدادا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى