
#خاطره
د. #هاشم_غرايبه
يخلط كثيرون بين مفهومي المثقف والعالم، الثقافة هي معرفة شيء من المعلومات الأساسية عن كل شيء، والعلم هو معرفة معلومات كثيرة ودقيقة عن شيء محدد.
إذاً فالثقافة شمولية والعلم متخصص، ومن النادر أن يجتمع الأمران في شخص واحد، إلا أن ينتقص أحدهما من الآخر، فكثيرا ما تجد عالما حاصلا على أعلى المراتب في الطب أو الرياضيات، لكنه قد لا يعرف الفارق بين الماعز والشاه، أو قد لا يفطن إلى حل مشكلة بسيطة من تلك التي هي باستطاعة الشخص العادي.
فمن طرائف ما يروى عن “أديسون” أنه كانت لديه قطة تلازمه في معمله، وكان يأنس إليها، لكن ما يضايقه هو أنها تحتاج بين فينة وأخرى الى أن تخرج الى الحديقة لتقضي الحاجة، فتظل تموء الى أن يفتح لها الباب حتى تخرج، ويظل واقفا ينتظر عودتها ليعيد إغلاق الباب، لذلك هدته (عبقريته) الى أن يفتح لها كوة صغيرة لتدخل وتخرج على راحتها.
بعد فترة ولدت القطة أربعة صغار، فرح بذلك وأراد أن يجعل للصغار ما جعله للأم، فثقب في الباب أربعة فتحات صغيرة بجانب فتحة الأم. بعد فترة زاره أحد أصدقائه ولاحظ الفتحات فسأله عنها، فحكى له “أديسون” القصة معتدا بعبقريته في حل مشكلة القطط معه، إلا أن صديقه ضحك طويلا من غفلته قائلا: كان يكفيها جميعا فتحة الأم لكي تستعملها جميع القطط، فتخرج وتدخل جميعها على التوالي وليس التوازي!.
كثير من المعادين للدين يأنسون باكتشافهم أن بعض مشاهير العلماء والفلاسفة ملحدون، فيعتبرونهم قدوة معتبرين أن ذكاء ذلك العالِم هو الذي أوحى له بالإلحاد، ويعتقدون أنه لو كان التفكير العلمي يهدي الى الإيمان لكان أولئك في طليعة المؤمنين.
الحقيقة أنه يوجد مؤمنون كثر بين مشاهير العلماء والمفكرين والفلاسفة، مثلما أن هنالك ملحدون، لو دققنا في حالة كل ملحد منهم على حدة، لوجدنا أن لديهم (على الرغم من عبقريهم) غفلة مثل تلك التي كانت لأديسون.
أما المعيار الأهم في التمييز بين الفريقين، هو أن غير المؤمنين لم يُكوّنوا قناعتهم هذه بعد محاكمة عقلية ومنطقية سليمة، بل اتخذها أغلبهم بسبب ضحالة ثقافتهم وقلة إطلاعهم، فإما اكتفوا بما يطفو على سطح ذاكرتهم من قشور المعرفة الضئيلة التي كونت مجمل ثقافتهم، وإما بسبب انشغالهم بما يعتقدونها أمورا أهم، أو لغياب البصيرة التي هي ملكة أخرى ليست بالضرورة ملازمة للذكاء، فغيابها أغفلهم عن التبصر في معنى وجودهم.
إلا أن آفة العلم النسيان، وآفة الثقافة التعصب، فكثيرا ما تجد عالما شارد الفكر بسبب إنشغال عقله بالتفكير في مسائل عالقة يبحث لها عن حل، قد تعطل ترسيخ معلومات يعتبرها قليلة الأهمية في ذاكرته.
فقد اعتاد أحد هؤلاء على تناول غدائه في مطعم قريب، وأثناء سيره مرة إليه توقف في منتصف الطريق وهو يفكر في معضلة، بعد قليل انتبه لنفسه ناسيا هل هو ذاهب الى المطعم أم عائد منه، فسأل من كانوا يراقبونه بفضول: هل رأيتموني قادما من هذا الإتجاه أم ذاك؟، فقالوا بل من ذاك، فقال: أذن فقد تغدّيت!.
لذلك فمن كانت لديهم المكانة المرموقة علميا، يؤخذ عنهم مما هو في مجال تخصصهم، وليس شرطا تفوقهم في المعارف الأخرى، أما المثقف الحقيقي فهو من كان لديه نهم للمعرفة، فلا يغلق نافذة يأتيه منها نور، ويبقى مستزيدا أبدا لا يقنع بما جناه، أما المزيف فهو الذي يكون متعصبا لفكر معين، يستزيد ممن يشاكلونه ويهمل آراء من يخالفونه، لأنه لا يبحث عن المعرفة بل عن تعزيز أفكاره، لذا تنشأ لديه فجوة في المعلومات.
الحكيم فقط هو من يصلح كمرجع معرفي في كل الأمور، لأن الحكمة تتأتى من اجتماع العناصر الثلاث في شخص واحد: العلم والثقافة والبصيرة، لذلك قال تعالى: “يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً” [البقرة:269].

