د. #هاشم_غرايبه
لا يختلف اثنان على أن أمتنا تعيش حاليا أسوأ حالات انحطاطها، رغم امتلاكها كل مقومات الارتقاء والرفعة، فالأموال كثيرة لكنها بأيدي سفهاء يبددونها في البذخ والتعالي في البنيان، والثروات الطبيعية وفيرة لكن أصحاب القرار في استثمارها مسلوبو الإرادة خاضعون لإملاءات سرية من المستعمر، وموقع ديارها على ملتقى ثلاث قارات، فهو عالي الأهمية الاستراتيجية، لكن أولي الأمر لا يحسنون استثمار ذلك.
لو عدنا الى جذور هذه الحالة في تاريخنا الحديث من بداية القرن العشرين، لوجدنا أن الإنكليز الطامعين بالإستيلاء على أملاك الدولة العثمانية عملوا على صعيدين معا: اختراق الأتراك بجمعية الإتحاد والترقي التي عملت على اضطهاد العرب وإرهاقهم بالضرائب والتجنيد من أجل توليد النقمة على الأتراك ودفع العرب للثورة، ومن ناحية أخرى أغرت العرب بالثورة عليهم.
هكذا وجد العرب أنفسهم فجأة مكشوفين أيتاما، بعد سقوط الدولة الإسلامية، التي تمتعوا في كنفها بالوحدة والمنعة طوال قرون عديدة، فتم إغراء مثقفيهم برعاية فرنسية أولا ثم بريطانية بأن الوحدة ستحققها الحركة القومية، ووجدت أكثر المتحمسين لها من غير المسلمين، ورافق ذلك حركة نشاط ثقافي أدبي سميت تنويرية، لكنها كانت تبشيرية بثقافة الغرب المتفوق، وتمثلت ببعثات الى أوروبا، وانتاجات هؤلاء كانت تسعى للربط الثقافي مع الفترة الجاهلية من أجل القفز عن فترة الدولة الإسلامية.
سياسيا تم تكريس التقسيم والشرذمة، فأُنشأت حدود لأول مرة بين الأقطار العربية، وأسست بريطانيا الجامعة العربية كملهاة عن فكرة الوحدة.
هنا بدأت جذور الروح الإلتحاقية بالغرب، إذ لم تولد هذه الدول العربية ولادة طبيعية من رحم الله بل كأطفال الأنابيب معا في معامل بريطانية فرنسية، لذلك لم تعرف الأنظمة أبا غير المتبني الذي استنبتها، والذي لم يفعل ذلك أبوة ورحمة، بل بهدف الإسترقاق.
هكذا أصبحت التبعية جزءا بنيويا من طبيعة النظام، ولذلك لا يمكن أن يكون مستقلا أو حتى ساعيا لذلك.
أن هنالك اتفاق على تشخيص سبب ذلك، وهو ذاته دائما عبر كل عصور هزال الأمة: الشرذمة والفرقة بسبب التكالب على الإمارة، فيضحي الطامعون بكل شيء لأجل ذلك، بما فيه مولاة أعداء الأمة، مما يعني الخضوع لشروطهم ومطامعهم.
لذا فالحل واضح، وهو استنهاض مكامن قوة الأمة، في النهضة من جديد، واستعادة التجربة التي نجحت في جمع شمل الأمة خلال عشرين عاما، ثم ارتقائها لتصبح منافسة للإمبراطوريات العطمى، فكانت حالة فريدة غير مسبوقة في تاريخها، الذي بقيت فيه مستغرقة تخلفا وتبعية لغيرها من الأمم آلافا مؤلفة من السنين.
لكن السؤال الكبير: كيف السبيل الى ذلك، وينقصنا الشخصية القيادية المخلصة الممثلة بالنبي صلى الله عليه وسلم.
الجواب على ذلك حاضر، فليس كل ذلك النجاح عائد الى القدرات القيادية الفردية، بل الى الفكر الذي اتبعه ذلك القائد، بدليل أن الصعود لم يتوقف بموته، بل استمر وبتسارع، كون من كانوا حوله تتلمذوا على يديه على الإيمان بذلك الفكر والاخلاص في اتباعه وتطبيقه كنظام حياة.
هنا يصبح السبيل الى الصعود من الجب أكثر وضوحا.
والرافعة هي الفكر ذاته.
البداية يجب أن تكون على وقف الرهان على من صنع الحالة الحالية من الشرذمة والتبعية ومنتفع منها، في إمكانية الخروج منها، فمن يبرع في الهدم والتمزيق، لا يمكن أن يعهد إليه بعملية البناء والرتق.
كما أن من لا يؤمن بوجود مشكلة بنيوية في النظام السياسي العربي والتي ولدت هذا الحال المائل، بل يصور له تعاليه وكبره الأحمق أن المشكلة في طبيعة شعوبنا فيعتبرها متخلفة عن الشعوب الغربية، وكسولة خامله، أو يحيل سبب تخلفها الذي يزعمه الى الدين.
فهؤلاء أيضا لا يمكنهم المساهمة في المشروع النهضوي، لأن المحبط والمتعالي يفتقد الى الروح النضالية، وفاقد الشيء لا يعطيه.
إذن فالمشروع ملقى على عاتق متبني الفكر الإسلامي، لكن من غير اختراقهم من قبل الطامحين الى تولي الحكم بأية وسيلة، فذلك سيعيدنا الى المأزق الذي قصم ظهر الدولة الإسلامية من قبل.
المسؤولية في ذلك تقع على عاتق المؤمنين الصادقين الذين يبتغون رضوان الله، والتخلي عن انانيات حب الزعامة، والتقاؤهم علي برنامج واحد، لأجل التحامهم جبهويا، والقائد سيولد حتما من بينهم، إذ سيفرض وجوده بمقدار اخلاصه وترفعه وتضحياته.