
حين تتحول #السياسة إلى “ #مسرحية ”… ويصبح #البرلمان #رهينة #تغريدة من وراء المحيط!
بقلم أ.د. محمد تركي بني سلامة
لستُ عضوًا في أي حزب سياسي، لا إسلامي ولا علماني، ولا أملك أدنى رغبة في الانتساب لأي حزب في المستقبل القريب أو البعيد. ليس ذلك تمرّدًا ولا تعاليًا، وإنما لأنني خضتُ تجربة الانخراط الحزبي ذات يوم، وكانت تجربة… لن أقول فاشلة، ولكنها غير مثمرة وغير مجدية لأسباب كثيرة لا مجال لفتح جراحها الآن. ولأنني، ببساطة، لا أرى على الساحة الأردنية اليوم حزبًا يستحق أن أضع اسمي تحت رايته أو أن أتنازل عن استقلالي الفكري لأجل برامجه.
ومع ذلك، لا أنكر، بل أؤكد، أهمية العمل الحزبي ودوره الحيوي في حياة الشعوب. وما أكتبه اليوم ليس هجومًا على أحد ولا دفاعًا عن أحد، وإنما هو نابع من مسؤولية وطنية وأكاديمية تفرضها عليّ خبرتي في العلوم السياسية وخبرتي الدولية في قضايا الديمقراطية. فحين تكون المصلحة الوطنية على المحك، يصبح الصمت جريمة، بينما تغدو الكلمة واجبًا لا مفرّ منه.
يتسابق البعض اليوم في التحليل السطحي لمصير البرلمان الأردني، ويتساءلون — بقلق أو بشيء من الشماتة — هل نحن مقبلون على انتخابات مبكرة، وكل ذلك بناءً على تصريح من الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب صنّف فيه جماعة الإخوان المسلمين كـ “جماعة إرهابية”. وكأن البرلمان الأردني “قشّة” يمكن أن يسقطها نَفَسٌ طائش من البيت الأبيض!
لنكن واقعيين: تصريحات ترامب ليست ملزمة للأردن، ولا لأي دولة عربية أو إسلامية، إلا لمن يريد أن يرعب نفسه بنفسه. فهذا الرجل — كما عرفه العالم — يطلق تصريحاته كما تُطلق الأسهم النارية ليلة العيد: تلمع لحظة ثم تنطفئ، وقد تُشعل بعض الحرائق هنا وهناك… لكنه سرعان ما يتراجع، أو يُعدّل، أو “يتناسى” ما قاله عندما يصطدم بردود الفعل. تصريحاته صنعت انقسامات داخل المجتمع الأمريكي نفسه، وواجهت رفضًا من الكونغرس، ومن الإعلام، ومن مؤسسات الدولة. فما بال البعض عندنا يتعامل معها وكأنها أوامر عسكرية صادرة إلينا من المريخ؟
أما الأردن، فهو دولة ذات سيادة، تتخذ قراراتها وفق مصالحها لا وفق مزاج ترامب ولا نزواته. وعلاقتنا الاستراتيجية مع الولايات المتحدة لا تعني التبعية، وقد أثبت الملك عبدالله الثاني — كما أثبت قبله الملك الراحل الحسين — أن الحكمة الأردنية قادرة على مواجهة الضغوط الدولية دون أن تفقد بوصلتها أو كرامتها. أتذكرون حين رفض الملك عبدالله طرح ترامب بنقل سكان غزة إلى الأردن؟ أتذكرون مواقف الهاشميين أمام الضغوط البريطانية والأمريكية والسوفياتية سابقًا؟ الأردن ليس دولة تُدار عبر التغريدات.
والبرلمان الأردني، على ما فيه وما عليه، ليس لعبة بيد أحد، بل هو العنوان الأبرز للديمقراطية، والتجسيد الحي لمبدأ “الأمة مصدر السلطات”. هذا المجلس جاء عبر انتخابات حرة نزيهة شهد العالم بنزاهتها، وليس من الطبيعي — ولا المقبول — أن نفكر في تغييب البرلمان لمجرد أن ترامب قال كلمة، أو لأن صالونات السياسة قررت إشعال البلد بحديث “حل البرلمان”. هل نلغي إرادة الشعب بهذه البساطة؟ هل نتقبل فراغًا تشريعيًا خطيرًا لأن بعض “صالونات النميمة السياسية” تروّج لسيناريوهات لا تقوى على الوقوف على قدمين؟
هذا ليس نقاشًا ديمقراطيًا… هذا عبث سياسي لا يليق بدولة مثل الأردن.
وحزب جبهة العمل الإسلامي… خصم سياسي؟ نعم. لكنه حزب وطني وشرعي. وسواء أحببناه أو اختلفنا معه — وهو أمر طبيعي في أي مجتمع سياسي — فإن الحقيقة التي لا يمكن القفز عنها أن الحزب مرخص رسميًا، ويمثل شريحة اجتماعية واسعة، وأن نوابه حازوا ثقة أكثر من نصف مليون ناخب. أمام هذه الحقائق، يصبح الحديث عن حل الحزب قفزة خطيرة في المجهول. فالنواب الإسلاميون ليسوا ضيوفًا في البرلمان، بل جزء أصيل من المشهد السياسي. والحق يُقال: أداء نواب الحزب خلال السنوات الماضية كان أكثر انضباطًا وفعالية من أداء كثيرين غيرهم ممن لا يعرف المواطن عنهم شيئًا سوى صورهم المعلقة على اللوحات الإعلانية.
والطامة الكبرى أن الحديث عن حل البرلمان أو حل الحزب يأتي في اللحظة نفسها التي ترفع فيها الدولة شعار “التحديث السياسي”. وكأننا نزرع شجرة في الصباح ثم نقطع جذورها بعد الظهيرة! فأي تحديث هذا الذي يبدأ بإلغاء المؤسسة التشريعية الوحيدة المنتخبة؟ وأي ديمقراطية هذه التي نفاخر بها بينما نفكر بإقصاء أكبر حزب سياسي مرخص في البلاد؟ إن حلّ البرلمان اليوم ليس مجرد خطأ سياسي، بل صفعة موجعة للرؤية الملكية التي تعمل منذ سنوات على تجذير المشاركة الحزبية وتعزيز الثقة بالعملية الديمقراطية.
كيف نطلب من الشباب الانخراط في الأحزاب ونحن نلوّح بحل حزب حصل على نصف مليون صوت؟ وكيف نطلب من المواطن احترام البرلمان ونحن نفكر بحله كلما ظهرت إشاعة أو صدرت تغريدة؟ أما على صعيد صورة الأردن الخارجية، فحل أكبر حزب معارض سيبعث برسالة لا نريد وصولها: رسالة مفادها أن الأردن يخشى تعدد الآراء، وأنه يتراجع عن التزاماته بالإصلاح السياسي. وهي رسالة — لو وصلت للعالم — ستكون أشد ضررًا من أي تصريح لترامب أو لغيره. وباختصار… حلّ البرلمان أو حلّ حزب جبهة العمل الإسلامي ليس مجرد خطوة سياسية، بل خطوة تهز ثقة المواطن بالديمقراطية نفسها. ولن يكون المتضرر حزبًا ولا نائبًا… بل سيكون الأردن وصورته ومستقبله السياسي.
وأقول كلمة أخيرة… من قلب موجوع: إن السياسة الأردنية اليوم تمر بمنعطف حساس، ولا تحتمل أن تتحول إلى مادة للسخرية أو للمؤامرات الصغيرة أو لحسابات مواقع التواصل الاجتماعي. نحن أكبر من ذلك، وطنًا ومؤسسات وقيادة وشعبًا. فالديمقراطية لا تُدار بردود الفعل، ولا تتحدد مصائر الدول بتصريحات أشخاص خارج السلطة. والأردن لن يُختصر يومًا في رغبة هذا أو غضب ذاك. حفظ الله الأردن من العبث، وحفظ قيادته الهاشمية الرشيدة الحكيمة بقيادة الملك عبد الله الثاني الذي يقلق ولا يخاف ، وحفظ الله سمو ولي العهد الامير الحسين بن عبدالله ، وحفظ برلمانه، وأحزابه، وناخبيه… من صخب غير المفيد ومن ثرثرة “صالونات السياسة” التي لا تنتج إلا قلقًا مجانيًا.
وبقي الأردن… دائمًا… أكبر من الجميع.




