#حرية لها #قضبان « #فتاة_الملجأ » .. #قصة_قصيرة
إبراهيم أمين مؤمن-مصر
لما ظلم الحكام والرعاة تذئبَ الناس، فانقلبَ الميزانُ، وباتت القضبان رمزا للحرّيّة، والظلام رمزا للنور، وطُوي الحق بلفائف من الباطل، وعلا صوت عواء الذئاب، وفحيح الأفاعي، وزئير الأسود وزمجرة الضباع، حينئذ لم يكن بوسع الملائكة سوى الإعلان عن قيام دول الغابات.
***
لم تطق كلماته، فقد كانت تترامى على سمعها كالصاعقة، وتنزل على جسدها كسياط من لهيب بركان جائع، ففرت منه ركضا -لا تلوي على شيء- إلى حيث لا تدري، شعرت بقدميها تركضان على ذوائب سيوف باترة، وأن الليل أرخى سدوله ليعلن عن نهاية الأمل الوحيد الذي كانت تبتغيه ليبدلها عن سنوات الملجأ المريرة.
ورغم أنها صدقته القول -حيث إنها تعلم أن أبلغ الصدق أن يكون من ضفائر دموع ساخنة مجدولة- داس بكلماته على وجيعتها.
فما هي القصة؟
***
لم يفارقها ما دار بينها وبينه وهي تركض ركض الخائفين.
واستعادت في مخيلتها الحوار بداية من أن قالت له: «نشأتُ في الملجأ.»
دهش دهشة من بين ثناياها غضب جارف، واستدار ليتفحصها بنظرة استعلاء وغضب، ثم اتكأ مرة أخرى على السيارة.
شعرت به، لذلك عاجلته رغبة في امتصاص غضبه واستدرار عطفه بقولها: «الملجأ أرضه سلاسل في الأقدام، وسقفه أغلال في الأعناق، وهواؤه يحبس أنفاسي كأنما أصّعد في السماء، ولم أدر ماذا جنيت، فلم أجد إجابة غير قولي: فكم من زهرة عُوقبتْ لا تدري يوما إثمها!»
استدارت هي الأخرى هذه المرة تحدق به، لتستشرف ما بداخله، فتأكد لها أن الكلمات لم تؤثر فيه، بل ازداد منه زفير الأعماق ضيقا وغضبا.
فقالت له كلمات أخرى رغبة في تحطيم الصخرة التي تتمركز في صدره وتلين بعد أن اتكأت بظهرها على السيارة مرة أخرى: «وما كتمَ أنفاسي واختلجتْ فيه جوارحي وتململتْ فيه روحي أكثر من تردد سؤال يجلدني في كل ذرة من كياني كله، لماذا رماني أهلي؟»
وأنّت أنين المصاب الجريح، وانهمرت الدموع وجسدها يرتجف وهي تحاول أن تصل إلى الحقيقة بطرح أسئلة أخرى على نفسها: «هل أنا بشرٌ من طينة غير طينة آدم؟ لعلي مررت بمراحل نموي من بداية النطفة حتى إكساء لحمي في رحم شيطان مارد، فطردتُ من أرض البشر لأحيا في عالم الشياطين، ويكأنّ نفسي عفّ عنها كل مَن في الأرض وكل مَن في السماء؟»
سكت برهة، ثم التفتت إليه مرة أخرى فوجدت أوداجه تنتفخ، مدفوعة من طوفان غضب جارف فسألته: «كل مَن في الملجأ يشهد لي بخلقي الرفيع وجمالي المنقطع النظير، هذا أنا، فما قولك؟»
لم يجبها، وظل متصلبا غاضبا، بيد أن الدهشة زالت عنه، هو يحاول أن يستجمع قواه محدثا نفسه: كيف أواجه هذه الحثالة بنت الزناة.
شعرت ما يدور برأسه، فتماسكتْ، تعرت عندئذٍ من ثياب الألم واليأس وارتدت ثوب العزيمة والأمل، فقالت: «لكني كنتُ أبث العزيمة في نفسي خوفا من أن يقتلني اليأس، فكثير ما كنتُ أقول: لا يأس مع الحياة، ولا حياة مع اليأس، وكنتُ أبحث عن الأمل في ثنايا فاه الشمس المشرقة، وفي حياة الأرض المهتزة المربوّة من سقيا السماء بعد أن كان قد مزق أحشاءها الجفاف.»
دارت عيناها عليه وهي تنكر موقفه في نفسها، لذلك قالت وهي تهزه من ساعديه: «لابد أن نحيا بالأمل، ليس كل الناس رؤوس شياطين، وليس كل من يعوي من الطامعين، وليس كل من يزأر من المتوحشين، وأنت أكبر دليل.»
لم يعلق أيضا.
عادت ووقفت بجانبه يائسة، واتكأت على سيارته وقالت بصوت منخفض: «لذلك خرجت من الملجأ لأكسر رُغام اليأس والتشاؤم وأُعلو راية الأمل والتفاؤل، ووجدتها فيكَ، فما قولك؟»
سكتت برهة ثم صرخت بترديد نفس السؤال.
لكن لا مجيب.
فاستدارت وهزته مرة أخرى من ساعديه ورددت على مسامعه نفس السؤال.
ظل ساكنا أيضا، وشعرت حينها بأن غضبه ينفجر من معين الغيظ والحنق عليها، وقد صدقت مشاعرها بالفعل، فقد تبدل حاله تماما بالفعل، وخرج عن سكونه وتحول إلى بركان ثائر، رفع رأسه مستنكفاً، فاغرا فاه كي يتمكن من قذف كم هائل من كلمات لاذعة وارتفع صوت كالخوار: «أنا أتزوجكِ يا بنت الملاجئ، إني من أصول راسخات كالجبال وأنتِ من أصول خيوط عنكبوت هوت من قديم بزفرة نملة ضالة، اغربي عن وجهي يا بنت الزواني.»
وصفعها على وجهها، صفعة باليمين والأخرى باليسرى.
***
بتذكرها قوله أسرعت في عدوها حتى أعياها الركض فهدأت من خطاها وقالت لنفسها مستعبرة: «مجتمع كالتماثيل الصماء، يسبحون بحمد التقاليد العمياء، تقاليد توارثها الأبناء عن الأجداد، آفة القرن وكل القرون، تقاليد جسدوها تماثيل في نفوسهم ففريق عبدوها طواعية وفريق ذلت لها أعناقهم فعبدوها كرها، وكنت أنا أحد قرابين آلهتهم، فيا ويل أمثالي من هؤلاء المكفوفيّ الأبصار، يا ويلي، وويل كل الضعفاء.»
وظلت تلتفت يمينا ويسارا بقلب فارغ ووجه شاحب تتأمل في كل من حولها وتقول: «مجتمع يحب الجمال وإنْ كان زائفًا، والمظاهر ولو كانتْ كاذبة، والمناصب ولو كانتْ طاغية، والعائلات ولو كانوا جبابرة، والأبنية العالية ولو كانتْ هاوية.»
وبدأ يبلغ منها التعب حتى توقفت تماما عن الركض وسارت تترنح وهي تسير، قالت: «التهمتني تماثيلهم، وستظلُّ تلتهم إن لمْ تستيقظ ضمائرنا، أو تستيقظ ضمائر رُعاتنا ومسئولينا.»
وعادت تجهش بالبكاء وهي تتذكر سبب جراحها الذي انفجر منذ لحظات، تذكرت ما قال مدير الملجأ لها: «وجدكِ رجل شحّاذ على باب مسجد تصرخين من الجوع والعطش، فجاءني وقال: «خذْ هذا المولود يا “بيه”، ارعه واعتني به، فإني رجلٌ لا أكاد أحمل نفسي، فإني أجوع أكثر مما أشبع، وأتعرّى أكثر مما أكتسي، ولا أبيتُ إلا على جوانب الطُرقات، وها أنتَ ترى عاهتي، وولّى مستاء وقد أجهش بالبكاء.»
لم تدر بنفسها بضع لحظات حيث أخذتها غفوة السكارى، رأت أمامها الزهور تعوي عواء الذئاب، وتسير نحوها وهي تزأر زئير الأسود الجائعة، فانتبهت لها فنهضت وعاودت الفرار وقد عاد إليها وعيها وقالت: «ماذا كنتُ أرى خلفي رباه.»
وواصلت السير وهي تتأمل بحزن بالغ وتقول: «ما أراه أمامي ما هم إلا أشباح الإنسانيّة، وظلام النفوس الساديّة، وضحكات السخرية ذات الأصوات الساخرة الفاترة المتأفّفة، وحضارات من خيوط العنكبوت تسكن الحدائق قبل اليباب، وسمعتُ أقبح عواء، وفزعتُ من زمرة أسود ملكية، وتصافّتْ الأفاعي لتفحّ في فمي سُمّاً ناقعاً.»
***
وفجأة رأت أمامها خمسة من رجال يدلعون ألسنتهم على جسور شفاههم، ويتحسسون قضبانهم وينظرون إليها نظرات شغف، وبعضهم كان يعضّ بأسنانه العلوية على شفته السفلى، وسمعت أحدهم يقول: «أليست هذه فتاة الملجأ؟»
أجابه أحدهم: «نعم هي بجسدها وجمالها.»
قالوا: «إذن، فجسدها مباح.»
وهجموا عليها ينهشون جسدها نهشا، كأنهم مجموعة من الأسود تأكل فريستها بعد أن نجحت في الإيقاع بها.
واغتصبوها واحدا واحدا ولم يعبأوا بالمارة، حيث إن نظرتهم لها كنظرتهم هم لها، لحم رخيص مستباح.
ولما انتهوا منها بعد التناوب واحد بعد الآخر ضربوها وهم يشيرون لها ناحية الملجأ ويقولون: «امضي الآن يا بنت الملاجئ.»
***
وسارت تترنح، حتى إنها لم تستطع السير إلا اتكاءً على جدران المباني، تستغيث بالملجأ، فلما كانت على مقربة منه سقطت من الإعياء، حاولت النهوض فلم تستطع، فزحفت، زحفت بقوة رغبة في النجاة، وما بين فخذيها يؤلمها، ودم فرجها قد لطخ حوضها، نظرتْ إليه، وقالت بأسى بالغ: «أَظْمَؤُوا شهواتهم على انفجار خاتمها.»
***
قابلها المدير فزعاً وقال: «ماذا حدث يا روضة؟ وما هذا الدم الذي يلطخ ثوبك؟ ومَن مزق ثوبك؟»
قد بلغ بها الإعياء إلى حد جفّ فيه حلقها، فرفعت يدها اليمنى وهي تلف أصابعها نحو نافذة حجرتها كأنها تلوذ به وتقول بشق الأنفس: «احملني إلى الداخل.»
فلما حملها وانتهى بها إلى سريرها جلس بجانبها بوجه فزع، وكرر سؤاله السابق.
أجابته: «الآن علمتُ لِمَ رماني أهلي، الآن آمنت أنّ الفقراء يقتتاون رفات العظام، وأن الضعفاء يستقوون من الوهم والسراب، وأن الحق توارى خلف السحاب، وأن العدل هو عدل أصحاب القوة والسلطان، والباطل هم كل أصحاب الفقر والضعف.»
قال: «قلتُ لكِ ذلك من قبل ولم تصدقيني.»
وظلّ ينظر إليها وكلتا عينيه تذرفان الدمع ذرفا، أما هي فقد كانت تكلم نفسها وهي تتحسس بطنها: «تُرى، كم حملت الأرض من أجنة باسم روضة، أو روضتين أو ثلاث، أو عددا لا يحصى منها؟ لعلني كنتُ بذرة تبرعمت من فرج أمي نتيجة ذئاب مثل الذين اغتصبوني، آه من شوادن الغزلان التي خرجت من صلب ظهور الذئاب.»
نظرتْ إليه بوحه شحب شحوبا غريبا، والدمع قد لطخ وجهها البريء، وقالت: «هذا زمان انقلبت فيه الموازين، فباتت الحرية خلف القضبان، والحبس في الفضاء الفسيح، والآن باطن الأرض أولى بي من ظهرها.»
قالتها وسكنتْ إلى الأبد.