سواليف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وبعد :
فقد سبق أن تمّت لقاءات شارك فيها العديد من عمداء كليات الشريعة في هذا البلد العزيز والأخوة القائمين في هيئة الإعتماد بهدف تطوير خطط كليات الشريعة والعمل على رفع سويتها وكان الأمر محل تقدير وترحيب لوجود قناعة تامّة بأن التطوير هو في حد ذاته غاية طالما كان الهدف منه السعي إلى تحقيق مقاصد التعليم وتحسين مخرجاته ورفد الوطن بالكفاءات القادرة على تحمل المسؤوليات وتعزيز القدرات.
غير أنه وبعد اجتماعات ولقاءات أسفرت عن توصيات كان الاعتقاد بأنها ستحقق الهدف المنشود أو بعضه قد فوجئنا بقرار تمّ إعتماده من قبل مجلس التعليم العالي في جلستـه بتاريخ 18/2/2017، ومنه عدد من التوصيات التي طولب رؤساء الجامعات الأردنية بالعمل على تنفيذها في موعد أقصاه 1/5/2017 .
وبعد النظر في تلك التوصيات من قبل المعنيين في كليات الشريعة عمداء ومدرسين وجدنا أن من الضروري الوقوف عند تلك التوصيات بل القرارات وبيان ما ينبغي بيانه إيماناً منّـا بأهمية الموضوع وحرصاً على مقدرات ومكتسبات كليات الشريعة في بلد عربي إسلامي هاشمي يقوده هاشميون كانوا خيار من دعا إلى الإسلام ، وذاد عن حماه ، ولا ننسَ في هذا المقام أن جلالة الملك عبدالله الثاني حفظه الله ورعاهُ ما اعتلى منبراً دولياً إلا وكان فيه خير من تحدث عن الإسلام بصفائه ونقائه وقيمه. وقد تعودنا في هذا البلد أن الحوار هو المنطلق في البناء والتقويم ، وإحترام الرأي والرأي الآخر هو السبيل الأمثل للوصول إلى الصواب أو ما يقرّب منه ، وما الأوراق النقاشية التي طرحها جلالة الملك المعظم إلا خير شاهد على خلق مناخ تسود فيه حرية الرأي والتعبير.
نقول وبعد النظر في تلك التوصيات ، وإنطلاقاً من مبدأ الشعور بالمسؤولية إن لنا تحفظات كثيرة على تلك التوصيات وهي كثيرة لعلّ من أهمها :
أولاً: إن في التوصيات ما يوحي بفقدان مقررات كليات الشريعة لعدد غير قليل من المساقات التي تعالج قدراً من الثقافة في مجالات السياسة ، والتاريخ العالمي ، والقانون ، والفكر المعاصر ، وعلم الإجتماع ، وعلم الفلسفة ، واللغات ، ومهارات الحوار ، وإحترام الرأي والرأي الآخر ، وتحصين الطلبة من الغلو والتطرف … وهذا مطلب لا غُـبار عليه، بل يحسن أن يعطى لكل طالب مهما كان تخصصه لمسيس الحاجة إليه.
لكن الذي ينبغى إن يشار إليه أن خطة الطالب المكونة (132) لا يمكن بحال من الأحوال أن تستوعب ما تمّت الإشارة إليه ، لكن خطط الشريعة تعالج قدراً لا بأس به في مجال اللغات ، والفكر المعاصر والقانون في بعض جوانبه ، وإحترام الرأي والرأي الآخر ، وتحصين الطلبة من الغلو والتطرف وهذان الأخيران ، بقصد الإحترام ، ومحاربة التطرف هما أجل الأهداف الواضحة في خطط كليات الشريعة ، وما الفقه المقارن إلا دليل من أعظم الأدلة على مدى تقدير الإسلام للرأي الآخر. وكل مساق لا يخلو بصورة مباشرة أو غير مباشرة من محاربة الغلو ونبذ التطرف.
وهنا لا بد من التأكيد على أن كليات الشريعة هي حصن منيع يلوذ بها كل الباحثين عن حقيقة الإسلام وإنسانيته ، ولا مكان هو أكثر محاربة للتطرف والغلو والإرهاب من كليات الشريعة بالنظر إلى وضوح الرؤية والمنهج والغاية في خطط هذه الكليات، وما شهدت جامعة من جامعاتنا الأردنية مشاجرة واحدة كان لطلاب الشريعة مساهمة فيها ، بل إن كل من ساهموا أو شاركوا في أعمال إرهابية منظمة أو غير منظمة لم يكونوا من الدارسين للشريعة ، وأجهزة الرصد العالمية التي تناولت ظاهرة الإرهاب في العالم هم من أكدوا أن جل القائمين على الإرهاب والدعاة إليه هم من أصحاب التخصصات العلمية التجريبية وأكثرهم من خريجي جامعات غربية ، وأن نسبة من كانوا على علم بالشريعة ودراساتها لا يشكلون أصابع اليد الواحدة من مائة ، وهذا موثق لا تستدعي الحاجة إلى تأكيده .
ثانياً: إن الخطط الدراسية المعمول بها حالياً قد أقرتها مؤسسات التعليم على اختلاف مستوياتها ، وهي خطط شاملة تقدم كل ما يلزم من وعي ديني وفكر وسطي ، وتوازن مع إنفتاح على الآخر وإحترام للإنسان وما يقتضيه ذلك من إطلاع على علوم مساندة وخاصة فيما يتعلق بعلم النفس وعلم الإجتماع والقانون وأكثر ما كان ذلك ظهوراً في الخطط المقررة لتخصص الإمامة والخِطابة.
ثالثاً: كان من القرارات أن يكون المعدل الأدنى للقبول في كليات الشريعة (80) ثمانون في الثانوية العامة ، وهنا سيتسائل كثيرون ، من يحصل على مثل هذا المعدل وهو خاص بطلبة الكليات العلمية كالهندسة والصيدلة وما شابهها ، هل سيقدم على دراسة الشريعة في وقت يرى فيه عامة الناس ومثقفوهم في هذا البلد أن الدارس للشريعة لا حظ له في الحياة العامة ولا مستقبل من حيث وفرة الوظائف ، وسلم الرواتب وغيرها ، فضلاً عن تدني القيمة الاجتماعية في أعين كثيرين للعاملين في مثل هذه التخصصات ، ولولا أن القبول الموحد هو الذي يفرض على كثير من دراسة الشريعة لما قبل بها هؤلاء ، وطمعاً في التحويل إلى تخصص آخر.
وفي تقديرنا أن هذا القرار فيه مجازفة واضحة ، وتجاوز للأعراف الجامعية القاضية بإستقلال الجامعات ، ومناقض لصلاحياتها الأكاديمية فضلاً عما سيؤدي إليه تطبيق مثل هذا القرار وهو في النهاية إغلاق بعض أقسام هذه الكليات ، وخاصة تلك التي تقع في الأطراف .
رابعاً: كنّا نتمنّى أن يكون القرار مدروساً ومتكاملاً من حيث تحديد الهدف والوسيلة والعلاج، أمّا الإحالة على المستقبل في موضوع الحوافز فهو محل نظر، ولو كانت دراسة علمية لبيان مدى الحاجة إلى الدراسات الشرعية وما يحققه من أهداف غاية في الأهمية لأنّ دراسة الشريعة لكل مناحي الحياة ، ولأن دارس الشريعة هو أكثر من غيره معرفة بمقاصد الإسلام وغاياته ، وهو الأقدر على توصيل وتعليم مراد الله ورسوله إلى الآخرين ، وهو الأعلم بالحلال والحرام ، وهو الأكثر من غيره تواصلاً مع عامة الناس وأفراد المجتمع وهو الأقدر على بيان مخاطر التطرف والغلو ، وهو الأقدر على كشف زيف أصحاب الفكر المنحرف ، وهو الأقدر على محاربة الفكر بالفكر … كلها غايات نبيلة تستحق التقدير والمزيد من الرعاية والعناية.
خامساً: لقد غاب عن ذهن الواضعين للقرار أن الإسلام أشمل من أن يكون مجرد أحكام شرعية تتناول الحلال والحرام ، وإن الإسلام شأن الحياة لكل أبعادها ، وكان هذا واضحاً في غياب تخصصات قد تكون في أهميتها كالفقه والتفسير والحديث إن لم تكن الحاجة إليها في زماننا أشد ، فأين ذهب قسم الاقتصاد والمصارف الإسلامية الذي يعدّ من أهم التخصصات في كلية الشريعة في جامعة اليرموك وهو التخصص الذي لو فتح للناس على مصراعيه لكان عدد الدارسين فيه بالآلاف وفيه الآن من الطلبة (1200) طالب وبمعدلات تنافسية ويمنح الدرجات الثلاث البكالوريوس والماجستير والدكتوراه وطلبته من دول عديدة شتى وخاصة من الدول الشقيقة في الخليج العربي ، وبات مورداً هاماً من الناحية المالية.
ثمّ أين ذهب قسم الدراسات الإسلامية بكل برامجه التربية الإسلامية بدرجاتها الثلاث بكالوريوس ، وماجستير ، ودكتوراه ، ثمّ أين ذهب برامج الدعوة والإعلام الإسلامي، وبرنامج الأسرة في الإسلام. هذه البرامج التي زينت كليات الشريعة وكانت بمثابة التطبيق العملي لها في واقع الحياة ، بل أن هذه البرامج من خصوصيات كليات الشريعة في الأردن العزيز ولا وجود لها في أكثر الجامعات العربية والإسلامية ، وكانت محط أنظار طلاب العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه… إننا نعجب من مثل هذا التجاهل لكل هذه المقدرات التي بناها علماء أجلّاء سواء أكانوا في الكليات أو إدارة الجامعات أو أعضاء في مجالس التعليم السابقة.
سادساً:إن قرارات التعليم العالي بخصوص ما أسمته ( إشراف لجان متخصصة ) على وضع الخطة الدراسية هو إتهام بأن الخطط الموضوعة لم يضعها مختصون! والأدهى أن تتحدث القرارات عن ( تحديد الكتب المنهجية ) الملزمة لعضو هيئة التدريس؟! فهل هكذا يكون تطوير التعليم أم هي الإنتكاسة حيث تتحول الجامعات إلى مدارس وكتب مقررة وهذا ما يتنافى مع البحث العلمي والقوانين والأعراف الجامعية التي تفترض قيام الطالب بقراءة الكتب والأبحاث وليس الإعتماد على كتاب واحد وكأنه طالب في المدارس!!
سابعاً:إننا وبعد كل هذا لم نزل نطمع في أن نجد كليات الشريعة من الدعم والتشجيع بما يسهم في بناء الوطن والمواطن ، ورسالة عمان التي تفاخر بها الدنيا هي رسالة كليات الشريعة ، التي كانت محل فخر وإعتزاز لجامعاتنا ، ولا أدل على ذلك من أن هذه الكليات هي بوابة الأردن الأهم التي طرقها طلبة العلم من كافة بلدان العالم الإسلامي لقناعة تلك البلدان بما تملكه هذه الكليات من جودة في التعليم ومخرجاته إضافة إلى ما يتصف به تلك الكليات والقائمون عليها من صفات الإسلام وقيمه العليا من إعتدال ووسطية وتقدير للمسؤولين وتعزيز لكل ما من شأنه التأكيد على صون الإنسان حياته ومقدراته الفكرية والمادية ، بل إننا نعتقد حزماً إن كليات الشريعة هي أشبه بخطوط الدفاع الثاني لما تقوم بالحفاظ على مقدرات الأمة الفكرية وقيم إسلامها العظيم ولا أدل على ما قلناه من أن ما يزيد عن حوالي (30) جنسية في كلية واحدة لكلية الشريعة في جامعة اليرموك حيث بلغ عدد الطلاب غير العرب فيها نحو ربع طلبة الكلية البالغ قريباً من أربعة الاف طالب.
ثامناً: فهل بعد هذا يدعي مُدَع أننا نخرج المتطرفين والإرهابيين. إننا نحذر من تراجع أعداد دارسي الشريعة حيث يميل الناس بفطرتهم إلى الدين وإذا منعوا من دراسته في المعاهد والكليات الشرعية فهذا يعني تقديمهم فريسة للجهال ليتلاعبوا بعقولهم ويحولونهم إلى متطرفين و ربما إلى إرهابيين قتلة يلتحقون بالمنظمـات الإجراميــــة ( خوارج العصر ) الذي سيستخدمون قرارات مجلس التعليم العالي حجة بأن الإسلام يُحارب في الأردن بينما يتمّ التشجيع لإتجاهات أخرى خاصة أن مساجد المملكة بحاجة إلى ما يزيد عن ( 3500 ) خريج شريعة من الذكور ليكونوا أئمة وخطباء.
ولنتذكر أن الدستور قد جعل التعليم حقاً شخصياً لا يجوز أن يصادره أحد وليس ثمة عقد بين الدارسين والحكومة من حيث التوظيف فهذا شأن آخر يتمّ عبر نظام الخدمة المدنية والإحتياجات الميدانية ، علماً بأن الطلبات المقدمة لديوان الخدمة حتى تاريخه لا يزيد عن (500) طلب بالإضافة إلى النقص الحاد في مدرسي الشريعة في المدارس من الذكور وفي القضاء الشرعي والإفتاء المدني والعسكري.
هـذا ما أحبـبـنـا إيضاحـه داعـيـن الله أن يحفـظ بلدنا من كل سـوء وجهـــل وتجهيـــل ( ربّ اجعل هذا البلد آمناً )، مُدركين حجم التحديات التي تواجه وطننا العزيز، وموقنون أن توضيحنا هذا سيجد له أذاناً صاغية لدى أصحاب القرار من أجل أن تبقى هذه السفينة آمنة مطمئنة.
وأخيراً فإننا نطالب وقبل إساءة الظنّ وليس كل ظن هو من قبيل الإثم بأعادة النظر في هذا القرار درءاً للضرر المترتب عليه ، وخاصة في رغبة عارمة لدى كثيرين في دراسة الشريعة الذين سيقصدون دراسة الشريعة في غير محلها الصحيح والغيرة مع الجهل دفعت شعوبنا ثمناً باهظاً لها في وقت نرى فيه المساجد في الأردن أحوج ما تكون إلى أئمة يحملون درجة البكالوريوس في الشريعة
والحمد لله ربّ العالمين