” تقاربٌ مريب ! “
مهند أبو فلاح
اثار التقارب التركي مع النظام السوري خلال الآونة الأخيرة موجة عارمة من الاحتجاجات الشعبية في المناطق الخارجة عن سيطرة سلطات دمشق و دفعت كثير من المراقبين و المحللين في أصقاع الوطن العربي الكبير للتساؤل عن انعكاسات هذا التقارب على مجمل الأوضاع الإقليمية البالغة التعقيد في هذه الرقعة الجغرافية ذات الأهمية الاستراتيجية من المعمورة .
عودة الحرارة إلى خطوط العلاقات التركية السورية بفضل الوساطة الروسية اكدت حجم النفوذ الذي تمكنت الديبلوماسية التركية من تعزيزه في كثير من ربوع الوطن العربي خلال العقدين الأخيرين مستغلة الفراغ الناتج عن احتلال جمجمة العرب العراق العظيم و خضوعه للاحتلالين الامريكي و الايراني ، ناهيك عن نجاح انقرة في غزو الاسواق العربية اقتصاديا عبر بضائعها ناهيك عن تغلغلها في العقول العربية فكريا عبر سيل من المسلسلات المدبلجة العاطفية منها او السياسية و التاريخية .
لقد كان الدور التركي موضع جدال خلال فترة الحراك الشعبي الثوري العربي في الاعوام القليلة الماضية التي اعقبت اندلاع شرارة ما عرف بالربيع العربي ، بين اغلبية لم تخف اعجابها بما تشهده تركيا من نهضة في شتى المجالات و رأت في نموذج حزب العدالة و التنمية الحاكم هناك و ما يقدمه من مزيج فكري ليبرالي اسلامي إن جاز التعبير مصدر الهام لها حيث اضطلعت بعض قوى و حركات الإسلام السياسي إن جاز التعبير بالترويج له على نطاق واسع و بين اقلية مناوئة لحكام انقرة لدوافع و اسباب مختلفة .
بعض المناوئين لدور انقرة الاقليمي كانوا حتى الامس القريب من أشد انصارها و حلفائها في المشرق العربي على وجه الخصوص لاسيما من انصار محور طهران دمشق ، علما بأن النظام الحاكم في هذه الاخيرة هو بالتحديد من فتح الباب على مصراعيه امام البضائع التركية للتدفق على الاسواق العربية عبر بوابته الاستراتيجية من خلال ابرامه سلسلة من اتفاقيات التعاون الاقتصادي و التبادل التجاري المشترك بين سورية و تركيا ، ناهيك عن التعاون على الصعيد الاعلامي الذي توج بسيل جارف من الاعمال الدرامية التركية التي تولى فنانون سوريون كبر دبلجتها بما احتوت عليه من غث و سمين و التي كانت في كثير من الاحيان تتعارض مع أبسط القيم الاخلاقية السائدة في مجتمعاتنا العربية المحافظة بالجملة اضافة الى ترويجها لمواقف انقرة من قضايا مختلفة كالصراع المسلح مع حزب العمال الكردستاني تارة او تاريخ السلطنة العثمانية تارة اخرى وفقا للمنظور القومي الطوراني التركي .
على اية حال و بعيدا عن الخلاف الدائر حول تقييم الدور التركي في الوطن العربي سلبا او ايجابا و الذي تعزز الجدل حوله بقوة مع امساك انقرة بعدة اوراق رابحة لاسيما في الملف السوري ميدانيا مع توغل قواتها في قطاع واسع من الاراضي السورية و سيطرتها على مناطق استراتيجية في شمالي البلاد عبر سلسلة من الحملات العسكرية الواسعة النطاق جرت خلال الأعوام القليلة الماضية و كدرع الفرات و نبع السلام فإن ما يعنينا كباحثين عن الحقيقة المجردة في زمن علو و إفساد بني إسرائيل الذي التبس فيه الحق بالباطل و اختلط الحابل بالنابل هو ان نضع يدنا على اهم الدراسات التاريخية السابقة التي اسست للدور التركي في الوطن العربي في هذه المرحلة التي ساد فيها الصهاينة و تحكموا بمقاليد الامور و زمامها في شتى اصقاع المعمورة .
الحقيقة ان المكتبة العربية تفتقر الى حد بعيد للدراسات و الابحاث التاريخية التي تناولت اهمية تركيا لدى المفكرين الصهاينة و لكنها لم تخلو تماما من ذلك ، و لعل احدى اهم هذه الدراسات و الابحاث هو كتاب ( بن غوريون و العرب ) للكاتب الصهيوني تبتاي تيبت الصادر باللغة العبرية في ثمانينات القرن الماضي و الذي ترجمه الى العربية الاسير المحرر من سجون العدو الصهيوني المرحوم غازي السعدي .
يقول الاستاذ السعدي في مقدمة هذا الكتاب موضحا اهميته لكونه يتحدث عن اول رئيس وزراء للدويلة العبرية المسخ و بإعتباره أحد أبرز منظري الحركة الصهيونية ” إن مذكرات بن غوريون المتعلقة بالعرب ذات دلالات صهيونية عميقة تهيء الفرصة للباحث و المسؤول على مساحة وطننا العربي للنفاذ الى فكر صهيوني لا نخاله من الماضي علاه غبار التاريخ بغياب بن غوريون عن الساحة ، إنه الفكر المخطط المبرمج الذي مازال شاهدا حتى يومنا هذا تتسلمه الاجيال الصهيونية أمانة ينبغي اداؤها رغم المتغيرات التي تفرض احيانا ادخال بعض التعديلات على التفاصيل ” .
إن ما يعنينا بالمقام الاول في هذا الكتاب و حصرا في مقالنا هذا هو ذلك الشق المتعلق بنظرة بن غوريون الى العلاقات الصهيونية التركية اذ يورد المؤلف في…