#تشكيلات #أكاديمية #جامعية:ما الجديد؟
د. حفظي اشتية
ملاحظة استباقية : كاتب هذه السطور في سنة خدمته الجامعية الأخيرة، وقد لا يُكملها، فما كان له ولن يكون مصلحة شخصية فيما يقوله.
وبعد،
في مثل هذا الوقت من كل عام جامعي تصدر التشكيلات الأكاديمية، فيتم تعيين نواب الرئيس والعمداء، ويقوم العمداء باختيار نوابهم ومساعديهم ورؤساء الأقسام. المتابع لهذا الأمر تثور في ذهنه أسئلة، وتلفت نظره ملاحظات، منها:
ــ كيف يتم الاختيار ؟ وما الأسس التي يستند إليها ؟ وما المعايير التي يعتمد عليها لإعفاء أحدهم أو إبقاء آخر، لتعيين أحدهم أو تجديد تعيين آخر؟ هل يخضع الاختيار لاعتبارات عشائرية أو مناطقية أو شخصية أو مزاجية؟ هل ينقاد الاختيار للواسطات والضغوط الاجتماعية؟ هل تتدخل التوجهات والاحترازات الأمنية؟ هل تتغلغل المصالح العليا الوطنية؟ هل يوجد تأثير للعلاقات الإقليمية والدولية؟؟!! هل يتأثر الاختيار بالتودد المصطنع والنفاق والتملق والتقرب المقيت والتزكية الزائفة….؟ هل ثمة علاقة للسمات الشكلية : لون البشرة والعينين، الشعر، الطول، عرض القفا والأكتاف، عِظم الكرش، طول الأذنين….؟؟؟؟!!!!
أنا مثل كثيرين غيري لا أدري كيف يتم الاختيار، كل ما أدري عنه يتسلل إلى مسامعي عَرَضا دون أن أسعى إليه، ويتمثل في تناقلات أخبار وإشاعات يروّج لها هواة تسقّط الأسرار ليتظاهروا بأنهم في قلب الأحداث ومطبخ صنع القرار! وهذا لا يمكن أن يكون المنهج السوي في البيئة الأكاديمية السامية التي يفترض أنها تقود المجتمعات نحو التغيير الراقي، والنقلات الحضارية العصرية. فلمَ ننتقد كيفية اختيار الوزراء وشاغلي الوظائف العليا وعلية القوم إذا كان سدنة العلم ومشاعل التنوير والتغيير لا يضربون المثل الأسمى ولا يرسمون المنهج الأقوم. كان الأولى أن تتشكل بحرص وعناية لجنة حكيمة نزيهة عادلة ذكية تنهض بهذه المهمة : تدرس الملفات، وتنقّر السيرة الذاتية والمستويات البحثية، والقدرات الشخصية والإدراية، وتغوص في المسالك التاريخية الوظيفية والأخلاقية، وتجري مقابلات متبصرة سابرة تقويمية، ثم تستخير الله تعالى، وتختار.
ــ أما الملاحظة الثانية فتتعلق باللاهثين وراء المناصب الحالمين بها الساعين إليها المتكالبين عليها. وهم أطياف :
ــ بعضهم يروّج مبكرا أنه قادم بقوة لشغل المنصب ليتم تناقل اسمه ويندرج على الألسنة، ويستذكر بذلك سيرة جوبلز لعل الكذبة تصبح حقيقة. وإن لم يحصل ذلك فقد حظي بجزء من شرف الذكر في ساح المعمعة!!! لكنه يخلّد نفسه مع الربيع بن زياد نديم النعمان بن المنذر في القصة المدوية المشهورة لمن يفهمها أو يسعى إلى فهمها، وفيها قول لبيد بن ربيعة :
مهلا أبيت اللعن لا تأكل معه ………………………..!!!
ــ وبعضهم لم يترك وسيلة شريفة نظيفة أو عكس ذلك إلا اتبعها لتزيين صورته
أمام المسؤول، وتعزيز فرصته. حتى إذا ظهرت سوابق الخيل ولم يكن له اسم فيها قلب شفتيه امتعاضا، وأخذه كِبْر الوضيع، ليذكّرنا بحكاية الثعلب وعنقود العنب :
قال هذا حامض لما رأى ألّا ينالا!!
ــ وبعضهم يكثّف حملاته الدعائية الصبيانية قُبيل ظهور التشكيلات، فتنساح في الميدان أخبار سيرته العمرية وفتوحاته الصلاحية، يتباكى على حب الوطن، ويذوب قلبه وجدا من شدة فرحه بتخريج أبناء ( كليته )، وفلذات كبده، الذين زجّ بهم إلى سوق العمل الذي ينتظرهم بفارغ الصبر، ويشكر رئيس مجلس الأمناء، ويشكر رئيس الجامعة بالاسم، ويشكر نواب الرئيس بالاسم أيضا، ويشكر عريف الحفل، ويشكر بائع اللبن!!! وتعجب كيف يقبل انسان سويّ لنفسه هذه المهانة والضعة وسوقية الطلب وذل الوسيلة وبذل ماء الوجه وهوان النفس، بعد أن كان يصوّر نفسه بأنه أحد أعمدة التعليم العالي، وإحدى منارات الإعلام، فنجد أنفسنا نردد :
حسبتك في الوغى مِردى حروب إذا خَوَرٌ لديك فقلت:سحقا
ــ وبعضهم يتناثر مِن فيه التأفف والانزعاج والضجر، بأنه قد تعرض لضغوط هائلة فوق طاقة البشر كي يقبل المنصب، لكن تقاه وورعه ــ رعاه الله ــ وخوفه من ثقل الأمانة وظلم الناس، وتحرجه من أن يكون مسؤولا عنهم قد منعته من القبول، وأغلق هاتفه في الفترة الأخيرة تجنبا لمزيد من الإحراج، وأصرّ على موقفه بأنه عفيف زاهد متسامٍ متصوف لا دُنّيّ، راهب في صومعة، قد ترك الدنيا ومن فيها وتفرغ لعلمه واختراعاته الواعدة بتخفيف آثار المعاناة الإنسانية!!
لكن مثل هذا ذكّرنا ــ دون أن يقصد ــ بتلك الفئة السامية من الرعيل الأول من أساتذتنا العظماء الذين كانوا ينأون بأنفسهم عن المناصب صدقا لا كذبا، حقيقة لا وهما. ولطالما نشبت بينهم الخلافات حول من يقبل أن يكون رئيسا للقسم، لأنهم كانوا يدركون جيدا أن العمل الإداري تكليف لا تشريف، وحمل ثقيل يجدر بكبار النفوس التخفف منه والبعد عنه.
وها قد أتى علينا زمان، يتكالب فيه بعض الصغار على أي منصب، لأنهم لا يرون فيه إلا المكسب الشخصي والراحة الشائهة والسمعة الزائفة في ظل تضعضع القيم وانهدام الهمم.
حقا :
وإذا كانت النفوس كبارا تعبتْ في مرادها الأجسام