تأملات قرآنية

#تأملات_قرآنية

د. #هاشم_غرايبه

يقول تعالى في الآية 14 من سورة الحجرات: “قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ”.
يحلو كثيرا لبعض معادي الإسلام أن يفسّروا الآية بأنها تعني أن الإيمان درجة متقدمة على الدين، وبناء على هذا الفهم يقولون بأنهم طالما آمنوا بالله إلها خالقا، فهم ليسوا بحاجة الى الإسلام لأنه مرحلة تجاوزوها الى الأرقى.
يعتبر هذا التفسير من باب ليّ أعناق الآيات لتتوافق مع غرض خبيث، فلو فسّرنا الآية بسياق نزولها أي تأويلها أولا ثم بالمعنى اللغوي على إطلاقه ثانيا، لوجدنا أنها نزلت قي قوم محددين من بني أسد، أرادوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم عطاء بحجة أنهم من المؤمنين، فنزلت هذه الآية لتبين أنهم أسلموا بحكم الأمر الواقع لكن الإيمان الحقيقي لم يتمكن من نفوسهم بعد، فليس مجرد النطق بالشهادتين كافيا لاعتبار المرء مسلما.
ودلالة أن هذه الآية ظرفية أي متعلقة بظرف متزامن لنزولها، أن الإِخبار جاء فيها بالأمر:(قل) أي أنها إجابة على مسألة وقعت، وليدلهم على أن الإيمان ملازم للإسلام، بدلالة استعمال (لمّا) التي تفيد الحصول المؤكد للأمر مع التتالي بلا انقطاع عنه.
لكن كل الآيات، حتى الظرفية منها، تأتي دائما لتبيان حالة يمكن أن يقاس عليها بمثلها أن تحققت شروط لحالة أخرى تماثلها، لذلك جاءت الآية التي تليها وهي 15 لتفسر من هم المؤمنون حقا: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِم فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ”.
إذاً، هل يمكن للمرء أن يكون مسلما لكنه غير مؤمن، أو مؤمنا وهو غير مسلم؟.
منطقيا، يمكن للمرء التظاهر بالإسلام أو الإيمان تكسبا بذلك أو تجنبا لخسارة، لأنها قناعات وجدانية لا يعلم حقيقتها غير علام الغيوب، لكنه إذ ذاك ليس صادقا في ادعائه.
وعليه فجوابا على الشق الأول، فلا يمكن للمرء أن يكون مسلما وهو غير مؤمن، وصدق إيمانه يتبدى من تحقيق الشروط الثلاثة الآنفة الذكر: 1- الإيمان بالله وبرسوله، 2- عدم التشكيك بما جاء به الرسول (القرآن) واليقين بأنه من الله، 3- تصديق ذلك عمليا بالتضحية في سبيل هذا المعتقد بالنفس والمال.
هنا نجد انتفاء الحاجة الى الإجابة عن الشق الثاني: (هل يمكن أن يبقى المرء مؤمنا وهو غير مسلم؟)، إذ أنه كيف يؤمن بالله ولا يؤمن برسوله وهما جاءا متلازمين ؟، فجاء النص (آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ)، ولم يفصل تعالى الإيمان به عن الإيمان برسوله، أي أنه بعد أن بين الله الرشد من الغي بإنزاله الرسالة الخاتمة، فإن هذا النص القرآني القطعي الدلالة، يحدد أنه لا يعتبر مؤمنا بالله من لا يؤمن برسوله، لأن ذلك تكذيب بما أنزل الله.
وجاء عطف الشرط الثاني: (لَمْ يَرْتَابُوا) على الشرط الأول باستعمال (ثم) لتفيد لزوم المشاركة على التوالي غير اللصيق لأن فهم القرآن يحتاج الى تفكر وتأمل عقلي لإزالة الإرتياب (الشك)، والذي متى ما تحقق، فسيلحق به وجوبا الشرط الثالث (جاهدوا..)، وعندما يستكمل المرء ذلك كله .. يعد صادقا في إيمانه.
نخلص في النتيجة أن هنالك درجات لتعمق الإسلام والإيمان في نفس المرء، ولأن التلازم المنهجي والمبدئي بينهما متحقق، فهما عندما يرتقيان معا عند الشخص، يتّحِدان، فيهديان المرء الى اتباع صراط الله المستقيم، ولا يكون عندها من الذين آمنوا لكن إيمانهم لم يصدقه عملهم، لأن منهم من كذب برسل الله فغضب الله عليهم، ومنهم من أشرك بالله فكان من الضالين.
يبقى الشرط الثالث (الجهاد بالمال وبالنفس) لازما للتفريق بين من يقول أنا مسلم لكنه قاعد عن الجهاد في سبيل الله، بالمال بدعم المجاهدين وبالنفس بمشاركتهم، فهذا من الأعراب الذين يدعون انتسابهم الى أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لكنهم في حقيقتهم لم يدخل الإيمان في قلوبهم، لأنه ران عليها فحجب حب عرض الدنيا عن قلوبهم الإيمان.
هذا أدى الى حرمانهم من صفة الإيمان، التي هي المنجاة الوحيدة من سخط الله، واستحقه المسلم الذي أسقط فريضة الجهاد، فقعد مع القاعدين، فكيف بمن يهاجم المجاهدين بحجة أنهم يتسببون بإيذاء المدنيين …..هل يطمع أن يعتبر مؤمنا!؟.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى