تأملات قرآنية

#تأملات_قرآنية

د. #هاشم_غرايبه

يقول تعالى في الآيتين 67 و 68 من سورة آل عمران: “مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ۗ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ “.
واضح من صيغة النفي القاطع لأمر ماض انقطع خبره، أانها جاءت ردا على ادعاء اليهود والنصارى كل على حدة، أن ابراهيم عليه السلام كان ينتمي لهم، وهذا الادعاء الباطل جاء به كلا الفئتين عندما أنزل الله رسالته الختامية على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، ليدحظوا انتسابه ودعوته الى الدعوة الإبراهيمية، التي لا يستطيعون انكار وجودها لأنهم يكتسبون الاعتبار لمعتقدهم بأنه سماوي من الانتساب لها.
وبما أن الأمر الذي يجادلون فيه حدث في زمن لم يشهدوه، فلا أحد يعلم به أكثر من الله تعالى، لذلك جاءت هذه الصيغة القاطعة بنفي ادعائهم، ورغم أن كلمته كافية للقطع في هذه المسألة، إلا أنه انسجاما مع كون القرآن لا يفرض الفرضيات بلا برهان، فقد عزز ذلك بالحجة المنطقية التي تسكت من يعقلون، في قوله تعالى في الآية السابقة: “يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِن بَعْدِهِ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ”، ثم يكمل أغلاق باب المحاججة بقوله: “فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ”.
في واقع الأمر كان اليهود وبنو اسرائيل يعلمون مما أعلمهم به نبيهم موسى عليه السلام، أن الله سيرسل نبيين اثنين من بعده يكملان دعوته، وأوصى من سيبلغ زمنهم باتباعهما، لكن اليهود منهم الذين حرفوا التوراة وفق أهوائهم كانوا يخشون ذلك، لأن هؤلاء الرسولين سيكشفان تلاعبهم ويصححان العقيدة، لذلك كانوا يترصدون ويبثون العيون في فلسطين ترقبا لظهور أولهما المسيح، وحرض أحبارهم (الذين كانوا يدعون كهنة المعبد)، حرضوا الحاكم البيزنطي الوثني عليه ليبطش به قبل ان تنتشر دعوته، ولما فشلوا في اكتشافه الى أن أصبح يافعا، وعرفوا صدقه مما أرسل الله معه من معجزات، كذّب أحبارهم بنبوته، وأفتوا للعامة بأنه دجال فلا تتبعوا دعوته، لأن المسيح الحقيقي بحسب تزويرهم سيجيء لنصرتهم واقامة مملكة السماء لهم في الأرض، وعليهم أن ينتظروه فهو بزعمهم لما يظهر بعد.
ثم تهيأوا لانتظار رسالة النبي الآخر، وكانوا يعلمون أنه سيظهر في بلاد العرب، فهاجر أقوام منهم اليها طمعا بأن يكون من بينهم، وعندما ظهر عرفوه: “الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ” [البقرة:146]، وبالطبع وكما فعلوا مع المسيح كذبوا به وحالفوا المشركين عليه، ولما كانوا قد اخترقوا العقيدة النصرانية التوحيدية، ونجحوا بتحويلها الى عقيدة التثليث الشركية بفضل جهود أحد أحبارهم “شاؤول” الذي ادعى تنصره وسمى نفسه القديس بولس، فقد شاركهم أتباع المسيحية بالتكذيب بالرسالة الخاتمة.
هكذا بات من السهل معرفة الحكمة من حفظ الله تعالى القرآن فقط من بين كل الكتب السماوية، فقد ضمنه أساسيات الرسالات جميعها وهي عقيدة التوحيد، وكل ما يحتاجه المؤمنون من تشريعات ولكل الأزمان القادمة، كما بين فيه وبوضوح تام بطلان وجود أديان ثلاثة بل هو دين واحد مسماه الإسلام، وهو ذاته الذي دعا اليه ابراهيم، ودعا اليه كل الرسل من بعده، وفي الآية 68 حدد تعالى متبعي دعوته والمقبول ايمانهم عنده: وهم من اتبعوا دعوته من الموحدين الأوائل، والنبي محمد صلى الله عليه وسلم، ومن آمن بدعوته، ولذلك يخاطب تعالى كل المرسلين من ابراهيم وحتى خاتمهم محمد: “وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ” [المؤمنون:52].
وهذا يقطع الطريق على المنافقين القائلين بالديانات الابراهيمية والحوار بينها، فلم يدع الأنبياء من سلالة ابراهيم الى أديان متعددة، بل هو الدين الذي دعا اليه ابراهيم من قبل وسمى المؤمنين به مسلمين، وأوصى كل الأنبياء من بعده لاتباعه: “وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ” [البقرة:132].
بهذا القول الفصل، وبما أنه يحرم على كل مسلم مخالفة كلام الله، فليحذر كل من يدعو الى ما يعرف باتفاقات ابراهام، أو يدافع عمن يدعو لها، أو يتقبلها، فذلك يخرجه من الملة.

مقالات ذات صلة
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى