
#تأملات_قرآنية
د. #هاشم_غرايبه
يقول تعالى في الآية 126 من سورة البقرة: “وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ”.
عندما ترك ابراهيم عليه السلام أغلى ما لديه: زوجته التي أنجبت له ولدا بعدما بلغ من العمر عتيا ولم تنجب زوجته الأولى، وابنه الرضيع الذي ما أن فرح برؤيته حتى ابتلاه ربه بإبعاده عنه وأمه الى بلد قاحل موحش، لكن ايمانه تغلب على عاطفته، وثقته بالله تغلبت على قلقه عليهما، فاستجاب لأمر الله مع أن قلبه يتفطر حزنا، فدعا ربه بهذا الدعاء.
كان يعلم مما أعلمه الله الحكمة من هذا الذي أمره الله به، لذلك لما سألته زوجته هاجر إن كان ذلك أمره الله به أم كان استجابة لرغبة جهة أخرى، أجابها بأنه أمر من الله، عندها اطمأنت فقالت: إذاً فلن يضيعنا الله.
من التأمل في صيغة الدعاء تستوقفنا مسألتان:
الأولى: أن أهم ما يحتاجه البشر ويوفر لهم العيش الكريم أمران: الأمان والموارد الطبيعية.
الثاني: أن توفير الله ذلك ليس موقوفا على المؤمنين به، فقد سبقت الكلمة منه من قبل خلق البشر أن يتكفل بأرزاقهم ورعايتهم في حياتهم جميعهم على السواء، لكن ذلك لا يعني المساواة في تعامله مع المؤمنين كالكافرين، سواء في حياتهم أو مماتهم: “أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ” [الجاثية:21].
لذلك عندما دعا ابراهيم أن يقتصر الأمان والرزق على المؤمنين فقط من القاطنين في بلاد الحرم، أجابه ربه أنه لا يغير سنته ، فمن كفر منهم سيمتعه مؤقتا بالأمرين معا، ثم مآله الى النار.
من استعراض تاريخ بلاد الحجاز، نجد أن الله قد صدق وعده في أهلها، فقد جعل لهم منذ القدم البيت حرما آمنا، كما جعل أربعة أشهر من العام يحرم فيهن القتل وحتى الصيد، وبالرغم من الطبيعة القاحلة للمنطقة فقد زودها بنبع ماء زمزم الذي لا ينضب مهما سحب منه.
كما أنه تعالى وبفرضه الحج والعمرة على كل الناس، فقد فتح الله بذلك باب رزق دائم لا ينقطع صيفا ولا شتاء: “أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا” [القصص:57] .
وفي العصر الحديث، وبعدما اكتشف الإنسان قيمة البترول، تبين أن الله قد أودع في باطن أرضها كميات هائلة من النفط والغاز والثروات المعدنية.
لذلك رأينا أن الله حمى أرض الحجاز منذ القدم من الغزاة، كما أغدق عليها أرزاقه، لكن ذلك لا يعني أنه راض عما يفعل الظالمون الذين يقيمون منهج الغرب العلماني في بلاد المسلمين، ويتحالفون مع من يعتبر الاسلام دينا إرهابيا، ويمدون بالمال الجزيل من يزود الكيان اللقيط بالسلاح الذي يفتل أطفال المسلمين ونساءهم ويدمر بيوت المدنيين كل يوم، وفوق ذلك يبطشون بالدعاة الى إقامة منهج الله.
لا يمكن أن نتصور للحظة أن الله غافل عما يفعل الظالمون.. فما تفسير ما يحدث الآن إذاً!؟.
لقد قدر الله تعالى في سابق علمه مكان بيته الحرام، ومناخ المنطقة القاسي وطبيعتها الفقيرة بالزراعة ليحميها من الغزاة، لكنه عوض ذلك بأضعاف ما يمكن أن تدره الطبيعة، وهذا العطاء الجزيل ليس ليستمتع به قاطنوا المنطقة، بل لأن المنطقة ستبقى موئل الإسلام عبر العصور، وهذا المال لكي يمكن القائمين على ادارتها من الانفاق على زوار الحرم أولا وصيانته ودوام توسيعه ثانيا، ولكي لا يكون الفقر حجة للحكام لعدم إعداد القوة، والتبعية لأعداء منهج الله، بل لكي ينفقوا هذه الثروات على الأمة في كافة أقطارها، لإبقائها عزيزة مكتفية بذاتها، فالمسلمون كالجسد الواحد، متكافل متعاضد.
وعليه فاحتكار المترفين ملكية هذه الأموالـ وإنفاقها على مهرجانات الفسوق، وبناء القصور والبذخ، والتعالي في البنيان، ليس مما أراده الله من اغداقها على الأمة.
لذلك يسلط الله عليهم اعداءه، يذلونهم ويبتزونهم فيسلبونهم تلك الثروات، ليصدق وعده فيهم: “إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ” [الأنفال:36].