بين الاعترافات العالمية والواقع المحلي: السلطة الفلسطينية في مأزق الشرعية

بين #الاعترافات_العالمية والواقع المحلي: #السلطة_الفلسطينية في #مأزق_الشرعية

الدكتور #حسن_العاصي

باحث أكاديمي وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمارك

في خضم التحولات الجيوسياسية المتسارعة التي يشهدها العالم، برزت في الآونة الأخيرة موجة جديدة من الاعترافات الرسمية بدولة فلسطين من قبل عدد متزايد من الدول، ما يعكس تغيرًا ملحوظًا في مواقف المجتمع الدولي تجاه القضية الفلسطينية. هذه الاعترافات، التي جاءت في سياقات متباينة سياسيًا وتاريخيًا، لا تعبّر فقط عن دعم رمزي لحق الفلسطينيين في تقرير المصير، بل تمثل أيضًا إعادة تموضع دبلوماسي لبعض الدول في مواجهة السياسات الإسرائيلية، وتعبيرًا عن رفضها لاستمرار الاحتلال وتجميد مسار السلام.

إن الاعتراف بدولة فلسطين لم يعد مجرد موقف أخلاقي أو إنساني، بل أصبح أداة سياسية تُستخدم لإعادة تشكيل موازين القوى في الشرق الأوسط، وللضغط على الأطراف المعنية من أجل العودة إلى طاولة المفاوضات. كما أن هذه الاعترافات تعكس تصاعد الوعي الشعبي والرسمي في عدد من الدول الأوروبية واللاتينية والأفريقية، بضرورة إنهاء حالة الاستثناء التي تعيشها فلسطين منذ عقود، وتثبيت وجودها القانوني والسيادي على الخارطة الدولية.

لا يمكن فصل الاعترافات الأخيرة بدولة فلسطين من قبل عدد من الدول عن السياق السياسي الذي تعيشه السلطة الفلسطينية، والذي يتسم بالجمود، والانقسام الداخلي، وتراجع الثقة الشعبية. هذه الاعترافات، رغم أهميتها الرمزية والدبلوماسية، لن تُترجم إلى مكاسب حقيقية ما لم تُقابل بسياسات فلسطينية رشيدة، تستثمر هذا الزخم الدولي وتحوّله إلى خطوات ملموسة على الأرض.

فالسلطة الفلسطينية اليوم أمام لحظة تاريخية نادرة، يمكن أن تُعيد فيها بناء شرعيتها الداخلية والخارجية عبر تبني رؤية وطنية موحدة، تُعزز من حضورها السياسي والدبلوماسي، وتُعيد ترتيب أولوياتها بما يتماشى مع التحولات العالمية. إن الاعترافات لا تكفي وحدها، بل يجب أن تُواكبها إصلاحات مؤسسية، وتفعيل أدوات الحكم الرشيد، وتوسيع المشاركة الشعبية، حتى لا تبقى فلسطين مجرد “دولة معترف بها” دون سيادة فعلية أو تمثيل حقيقي.

كما أن هذه التحولات تفرض على القيادة الفلسطينية أن تُعيد صياغة خطابها السياسي، وتنتقل من موقع رد الفعل إلى موقع المبادرة، عبر بناء تحالفات استراتيجية، وتقديم مشاريع تنموية وسياسية تُقنع العالم بأن الاعتراف لم يكن مجاملة دبلوماسية، بل استجابة لواقع فلسطيني قادر على البناء والاستقلال. إن تحويل الاعترافات إلى رافعة سياسية يتطلب إرادة داخلية، وقراءة دقيقة للفرص، وتجاوزًا لحالة التكلس التي عطّلت المشروع الوطني لعقود. فهل السلطة قادرة أم عاجزة؟

سلطة دون قرار

في فلسطين، لا شيء يُدار سوى الألم. سلطةٌ تُمارس طقوس الحكم دون أن تحكم، واحتلالٌ يمدّ يده على الأرض والسماء دون أن يدفع ثمنًا. تُدار المدن كما تُدار المقابر: بصمتٍ ثقيل، وبقرارات لا تُنفّذ، وبأحلام تُدفن قبل أن تولد. في رام الله، تُعقد الاجتماعات وتُصاغ البيانات، بينما في جنين تُهدم البيوت وتُغتال الطفولة. في غزة، يُحاصر الهواء، وتُقصف الذاكرة، ويُترك الناس بين نارين: نار الاحتلال ونار الترحيل.

الاحتلال الإسرائيلي لم يعد بحاجة إلى دبابات في كل شارع، فالتنسيق الأمني يفتح له الأبواب، والشرعية الدولية تمنحه الغطاء، والواقع العربي يقدّم له الصمت. أما السلطة، فهي تمارس دورًا إداريًا هشًا، تُراقب فيه الخراب ولا تملك من القرار سوى اسمه. لا مقاومة تُحمى، ولا كرامة تُستعاد، ولا شعب يُمثّل كما يجب.

في المشهد الفلسطيني، تتجول السلطة بين المكاتب المكيفة، بينما يتجول الاحتلال بين الأزقة والقبور. تُرفع الأعلام في المناسبات، وتُخفض الكرامة في الواقع. تُعقد المؤتمرات وتُنسق الاجتماعات، لكن لا قرار يُنفّذ، ولا سيادة تُحترم. السلطة تُمارس دور الشرطي المحلي، تُراقب الغضب الشعبي وتكبحه، بينما الاحتلال يواصل هندسة الخراب دون أن يُحاسب، دون أن يُكلفه ذلك سوى رصاصة أو تصريح متغطرس.

الاحتلال لم يعد بحاجة إلى جدار، فالانقسام الفلسطيني أصبح الجدار الأكثر فاعلية. والسلطة، التي وُلدت من رحم اتفاق هش، باتت تُدير الأزمة لا تُنهيها، تُراكم الخسارات لا تُراجعها، وتُعيد إنتاج العجز تحت مسمى “الواقعية السياسية”. أما الشعب، فهو بين مطرقة القمع وسندان التجاهل، يُدفن حيًا في نشرات الأخبار، ويُنسى في طوابير الانتظار على الحواجز.

ما أكتبه هنا ليس صرخة في فراغ، بل محاولة لفهم كيف تحوّلت السلطة إلى ظلّ بلا جسد، وكيف أصبح الاحتلال مشروعًا بلا تكلفة، في زمنٍ تُباع فيه فلسطين على مراحل، وتُنسى على الهواء مباشرة.

  سيادة بلا سيطرة: هندسة التبعية

منذ أكثر من ثلاثة عقود، يعيش الفلسطينيون تحت معادلة سياسية مختلّة، تُدار فيها حياتهم عبر سلطة بلا سيادة، بينما يتمتع الاحتلال الإسرائيلي بوجود مريح لا يُكلّفه شيئًا من تبعاته القانونية أو الأخلاقية. لقد تحوّلت السلطة الفلسطينية، التي وُلدت من رحم اتفاق أوسلو، إلى كيان إداري محدود الصلاحيات، يُمارس وظائف مدنية وأمنية تحت سقف الاحتلال، دون أن يمتلك أدوات الفعل السيادي أو القدرة على حماية الأرض والإنسان. في المقابل، تُواصل إسرائيل فرض وقائعها الاستيطانية، وتُمعن في قتل الفلسطينيين، وتهويد القدس، وضم الضفة الغربية، دون أن تتحمل أي كلفة سياسية أو قانونية، بل وتُقدّم نفسها للعالم بوصفها شريكًا في عملية سلام وهمية.

هذه المعادلة تُفرغ المشروع الوطني الفلسطيني من مضمونه، وتُحوّل القضية من صراع تحرري إلى إدارة أزمة، ومن مقاومة الاحتلال إلى التنسيق معه. السلطة الفلسطينية، في صيغتها الحالية، لم تعد تُعبّر عن تطلعات الشعب الفلسطيني، بل باتت تُستخدم لتبرير غياب الحل، وتُعيد إنتاج واقع الاحتلال بدلًا من مواجهته. أما إسرائيل، فقد وجدت في هذا الوضع فرصة ذهبية لتكريس احتلالها دون أن تتحمل تبعاته، مستفيدة من غياب الإرادة الدولية، ومن هشاشة البنية السياسية الفلسطينية.

في هذا السياق، يصبح من الضروري إعادة النظر في وظيفة السلطة، وفي علاقتها بمنظمة التحرير الفلسطينية، وفي جدوى استمرارها بوصفها كيانًا إداريًا يُدار تحت الاحتلال. فالمطلوب اليوم ليس تحسين شروط التفاوض، بل كسر المعادلة المختلّة التي تُبقي الفلسطينيين أسرى لوظيفة بلا سلطة، وتُعفي الاحتلال من كلفته. إنها لحظة تستدعي قرارًا جذريًا يُعيد الاعتبار للكرامة الوطنية، ويُعيد تعريف الصراع بوصفه مقاومة للاحتلال، لا إدارة للواقع تحت سلطته.

السلطة كقيد لا كيان: حين تتحول الوظيفة إلى عبء وطني

في السياق الفلسطيني الراهن، لم تعد السلطة الفلسطينية تُجسّد حلم الدولة، بل تحوّلت تدريجيًا إلى قيد سياسي يُكبّل الإرادة الوطنية، ويُعيد إنتاج الاحتلال بدلًا من مواجهته. لقد نشأت هذه السلطة بوصفها مرحلة انتقالية نحو السيادة، لكنها بفعل التعطيل الإسرائيلي والانحراف الداخلي، أصبحت عبئًا على المشروع الوطني، تُمارس وظائف إدارية وأمنية تحت سقف الاحتلال، دون أن تمتلك أدوات الفعل أو القرار. بل إن وجودها بات يُستخدم لتبرير غياب المسؤولية الدولية، وتخفيف الضغط عن إسرائيل، التي تُواصل سياساتها الاستيطانية والتهويدية دون أن تتحمل كلفة الاحتلال القانونية أو الأخلاقية.

السلطة اليوم لا تُدير دولة، بل تُدير أزمة، وتُعيد إنتاج واقع القيد، وتُحوّل القضية من صراع تحرري إلى نزاع إداري. وهذا التحول يُهدد بتفريغ منظمة التحرير من مضمونها، ويُضعف تمثيل الفلسطينيين، ويُشوّه طبيعة الصراع. لذلك، فإن إعادة النظر في وظيفة السلطة، وفي علاقتها بالاحتلال، لم تعد خيارًا فكريًا، بل ضرورة وطنية تُعيد الاعتبار للكرامة الفلسطينية، وتُعيد توجيه البوصلة نحو التحرر، لا التكيف.

لتنسيق الأمني: شراكة في تكريس السيطرة

العلاقة بين التنسيق الأمني الفلسطيني–الإسرائيلي وتكريس الاحتلال تُعد من أكثر القضايا حساسية وتعقيدًا في المشهد السياسي الفلسطيني، إذ تحوّل هذا التنسيق من إجراء مؤقت ضمن اتفاق أوسلو إلى بنية دائمة تُعيد إنتاج السيطرة الإسرائيلية على الأرض والناس، وتُفرغ مفهوم السيادة الفلسطينية من مضمونه.

من الناحية العملية، يُتيح التنسيق الأمني لإسرائيل تقويض أي نشاط مقاوم في الضفة الغربية عبر تبادل المعلومات مع أجهزة الأمن الفلسطينية، التي تُلاحق النشطاء وتُحبط التحركات الشعبية قبل أن تتطور. هذا الدور، وإن كان يُبرَّر بأنه يهدف إلى حفظ النظام، إلا أنه يُكرّس واقعًا سياسيًا تُمارس فيه السلطة دور “الوكيل الأمني”، بينما يبقى الاحتلال هو صاحب القرار والسيطرة الفعلية.

في المقابل، يُستخدم التنسيق الأمني كأداة ابتزاز سياسي من قبل إسرائيل، التي تُهدد بوقف التنسيق المدني والاقتصادي إذا ما لوّحت السلطة بوقف التعاون الأمني. وقد أظهرت الأحداث الأخيرة، خاصة بعد معركة “طوفان الأقصى”، أن التنسيق لم يتوقف فعليًا رغم إعلان السلطة ذلك، بل تعزز بحسب مصادر إسرائيلية. هذا يُشير إلى أن التنسيق بات مصلحة إسرائيلية بالدرجة الأولى، تُسهم في تقليل الاحتكاك المباشر مع الفلسطينيين، وتُخفف من كلفة الاحتلال اللوجستية، بينما تُبقي السلطة في موقع هش، تُدير شؤونًا مدنية دون قدرة على حماية شعبها أو الدفاع عن حقوقه.

فلسفيًا، يُجسّد التنسيق الأمني نموذجًا للاحتلال غير المكلف، حيث تُنقل أعباء إدارة السكان إلى السلطة الفلسطينية، بينما تحتفظ إسرائيل بالأرض والسيادة. هذا النموذج يُعيد إنتاج السيطرة من دون مواجهة، ويُحوّل الصراع من مواجهة بين شعب ومحتل إلى علاقة تنسيق بين طرفين غير متكافئين، ما يُضعف منطق المقاومة، ويُشوّه طبيعة القضية الفلسطينية بوصفها قضية تحرر وطني.

فلسطين بلا دولة… وإسرائيل بلا مسؤولية

في قلب المفارقة السياسية التي تحكم الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، تتجلى حقيقة صارخة: فلسطين بلا دولة، وإسرائيل بلا مسؤولية. فالشعب الفلسطيني، الذي يعيش تحت الاحتلال منذ أكثر من سبعة عقود، لا يزال محرومًا من حقه في السيادة، بينما تُمارس إسرائيل احتلالًا مريحًا، بلا تبعات قانونية أو أخلاقية، وبلا كلفة سياسية تُذكر. لقد تحوّلت السلطة الفلسطينية إلى كيان إداري محدود، يُدار تحت سقف الاحتلال، لا يمتلك أدوات الفعل السيادي، ولا القدرة على حماية الأرض أو الإنسان. أما إسرائيل، فتُواصل فرض وقائعها الاستيطانية، وتُمعن في تهويد القدس، وضم الضفة، وقتل المدنيين، دون أن تتحمل أي تبعات دولية، بل وتُقدّم نفسها للعالم بوصفها “دولة ديمقراطية” تُواجه “تهديدات أمنية”.

هذا الواقع يُعيد إنتاج الاحتلال بوصفه شراكة غير متكافئة، تُدار عبر تنسيق أمني، وتمويل دولي مشروط، وتواطؤ دولي يُفرغ القانون الدولي من مضمونه حين يتعلق الأمر بفلسطين. فحين تُمنح إسرائيل حق السيطرة على الأرض، والحدود، والمجال الجوي، والطيف الكهرومغناطيسي، وتُعفى من مسؤولياتها تجاه السكان المدنيين، فإنها تُمارس احتلالًا بلا كلفة، بينما يُطالب الفلسطينيون بإثبات أهليتهم للحرية، كأنها منحة لا حق.

إن غياب الدولة الفلسطينية لا يُعبّر عن فشل سياسي فحسب، بل عن انهيار أخلاقي في النظام الدولي، الذي يُدين الاحتلال في الخطاب، ويُحصّنه في الواقع. أما إسرائيل، فقد نجحت في تحويل الاحتلال إلى منظومة أمنية واقتصادية تُخدم مصالحها، وتُدار عبر وكلاء محليين، وتُبرّر بالقانون، وتُغطّى بالدبلوماسية. وفي هذا السياق، يصبح حل السلطة الفلسطينية، وإعادة تعريف العلاقة مع الاحتلال، ضرورة وطنية تُعيد الاعتبار للكرامة الفلسطينية، وتُجبر العالم على مواجهة الحقيقة: شعبٌ بلا دولة، يُقاوم احتلالًا بلا مسؤولية.

بين الوهم والسيادة: السلطة التي تُعفي الاحتلال من كلفته

منذ تأسيس السلطة الفلسطينية، ظلّت العلاقة بينها وبين الاحتلال الإسرائيلي محكومة بمعادلة مختلّة: سلطة بلا سيادة، واحتلال بلا كلفة. فقد تحوّلت السلطة، التي وُلدت بوصفها مرحلة انتقالية نحو الدولة، إلى كيان إداري يُدير حياة الفلسطينيين تحت سقف الاحتلال، دون أن يمتلك أدوات الفعل السيادي أو القدرة على حماية الأرض والإنسان. في المقابل، تستفيد إسرائيل من هذا الوضع لتُخفّف من أعباء الاحتلال، وتُعيد إنتاج سيطرتها من خلال وكلاء محليين، دون أن تتحمل مسؤولياتها القانونية واللوجستية كقوة احتلال.

هذا النموذج السياسي يُكرّس وهم السيادة الفلسطينية، ويُفرغ المشروع الوطني من مضمونه التحرري، ويُحوّل القضية من صراع تحرر إلى إدارة أزمة. فطالما بقيت السلطة تُمارس وظائف مدنية وأمنية، فإن إسرائيل تُقدّم نفسها للعالم بوصفها شريكًا في عملية سلام، بينما تُواصل على الأرض سياسات الضم، والقتل، والتهويد، والاستيطان. أما السلطة، فتجد نفسها عاجزة عن وقف الانتهاكات، أو حتى حماية شعبها من المداهمات الليلية والاعتقالات الجماعية، ما يُحوّلها تدريجيًا إلى أداة تُعفي الاحتلال من كلفته، وتُعيد إنتاجه بدلًا من مواجهته.

إن استمرار هذا الوضع يُهدد بتكريس الاحتلال بوصفه واقعًا دائمًا، ويُضعف منطق المقاومة، ويُشوّه طبيعة القضية الفلسطينية. لذلك، فإن إعادة النظر في وظيفة السلطة، وفي علاقتها بمنظمة التحرير، وفي جدوى استمرارها بصيغتها الراهنة، لم يعد ترفًا سياسيًا، بل ضرورة وطنية تُعيد الاعتبار للكرامة الفلسطينية، وتُعيد تعريف الصراع بوصفه مقاومة للاحتلال، لا إدارة للواقع تحت سلطته.

طبقة المنتفعين من الاحتلال: السلطة كامتياز لا كفاح

في قلب البنية السياسية الفلسطينية، نشأت على مدى العقود الأخيرة طبقة من الشخصيات النافذة داخل السلطة، ممن باتت مصالحهم الشخصية مرتبطة بشكل بنيوي باستمرار الاحتلال، لا بزواله. هؤلاء لا يُمثلون المشروع الوطني التحرري، بل يُجسّدون تحوّله إلى منظومة مصالح مغلقة، تُدار تحت سقف الاحتلال، وتُعيد إنتاجه بدلًا من مقاومته. لقد أفرز اتفاق أوسلو وما تلاه من ترتيبات أمنية واقتصادية، نخبة سياسية–بيروقراطية، تتغذى على التمويل الدولي المشروط، وتُراكم امتيازاتها من خلال التنسيق الأمني، والتحكم في مفاصل الإدارة، والاحتفاظ بمواقعها عبر الولاء السياسي، لا عبر الكفاءة أو الشرعية الشعبية.

هذه النخبة، التي تتصدر المشهد الرسمي، تُمارس دورًا مزدوجًا: فهي تُدين الاحتلال في الخطاب، وتُدافع عن “حل الدولتين”، لكنها في الواقع تستفيد من استمرار الوضع القائم، سواء عبر الامتيازات الاقتصادية، أو عبر النفوذ السياسي الذي يُعاد إنتاجه في ظل غياب المساءلة، وتآكل المؤسسات التمثيلية. بعضهم يمتلك شركات تعمل في مناطق خاضعة للسيطرة الإسرائيلية، أو يُشارك في مشاريع مشتركة، أو يُراكم ثروات من خلال احتكار التراخيص والتصاريح، أو يُحافظ على امتيازات السفر والتنقل التي لا تُتاح لعامة الفلسطينيين. بل إن بعضهم يُمارس دورًا وظيفيًا في ضبط الشارع الفلسطيني، ويُنسّق أمنيًا مع الاحتلال، في مقابل الحفاظ على موقعه داخل السلطة، أو ضمان استمرار تدفق الدعم المالي الخارجي.

هذا التواطؤ غير المعلن يُضعف منطق المقاومة، ويُشوّه طبيعة الصراع، ويُحوّل القضية من مشروع تحرر إلى إدارة مصالح، ومن كفاح وطني إلى وظيفة سياسية. كما أنه يُكرّس الانقسام بين النخبة والشعب، ويُعمّق فقدان الثقة في المؤسسات، ويُفرغ الخطاب الوطني من مضمونه. فحين تتحول السلطة إلى امتياز، وتُصبح العلاقة مع الاحتلال مصدرًا للنفوذ، فإن المشروع الوطني يُصاب بالشلل، وتُصبح التضحيات مجرد خلفية رمزية تُستخدم لتبرير الاستمرار، لا للتحرر.

إن مواجهة هذا الواقع لا تتم فقط عبر النقد، بل عبر إعادة بناء البنية السياسية الفلسطينية على أسس ديمقراطية شفافة، تُعيد الاعتبار للتمثيل الشعبي، وتُفصل بين الوظيفة الوطنية والمصلحة الشخصية، وتُعيد توجيه البوصلة نحو التحرر، لا التكيف مع الاحتلال. فالمطلوب اليوم ليس فقط حل السلطة، بل تفكيك منظومة الامتيازات التي نشأت في ظلها، واستعادة المشروع الوطني من قبضة المنتفعين، وإعادته إلى أصحابه الحقيقيين: شعبٌ يناضل من أجل الحرية، لا نخبة تُراكم نفوذها في ظل القيد.

إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية: استعادة الشرعية الوطنية الجامعة

في ظل الانقسام السياسي، وتآكل الثقة الشعبية، وتراجع المشروع الوطني الفلسطيني أمام تغوّل الاحتلال الإسرائيلي، تبرز الحاجة الملحّة إلى إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية بوصفها البديل الشرعي الجامع، والممثل الحقيقي لكافة فئات الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات. لقد تأسست المنظمة عام 1964 لتكون إطارًا تحرريًا يقود النضال الفلسطيني، ونجحت في نيل الاعتراف العربي والدولي كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني عام 1974، لكنها منذ توقيع اتفاق أوسلو عام 1993 دخلت مرحلة من الانكماش المؤسسي والسياسي، حيث تحوّل مركز القرار تدريجيًا إلى السلطة الفلسطينية، وتراجع دور المنظمة إلى وظائف رمزية أو شكلية.

هذا التراجع لم يكن تقنيًا فحسب، بل مسّ جوهر التمثيل الوطني، إذ باتت السلطة تُمارس أدوارًا تمثيلية دولية، وتُدير الحياة السياسية في الضفة وغزة، بينما جُمّدت مؤسسات المنظمة، وتوقّف انعقاد المجلس الوطني، وتقلّصت المشاركة السياسية إلى دائرة ضيقة مغلقة. وقد أدى ذلك إلى تهميش الشتات الفلسطيني، وتفكيك البنية الجامعة التي كانت تُوحّد الفلسطينيين تحت مظلة واحدة، بغض النظر عن الجغرافيا أو الانتماء الفصائلي.

إعادة بناء المنظمة اليوم لا تعني فقط إصلاحًا إداريًا، بل تعني استرداد الوطن المعنوي، وإعادة الاعتبار للتمثيل الشامل، وتفعيل مؤسساتها على أسس ديمقراطية، تُشرك الفلسطينيين في الداخل والخارج، وتُعيد صياغة الميثاق الوطني بما يتناسب مع المرحلة، وتُعيد تفعيل المجلس الوطني بوصفه الهيئة التشريعية العليا، لا مجرد واجهة شكلية. كما أن إعادة البناء يجب أن تشمل مراجعة العلاقة مع السلطة الفلسطينية، وفصل الوظيفة الإدارية عن التمثيل السياسي، بما يُعيد للمنظمة دورها القيادي في صياغة القرار الوطني، وتوجيه البوصلة نحو التحرر، لا التكيّف مع الاحتلال.

إن منظمة التحرير، إذا أُعيد بناؤها على أسس وطنية جامعة، يمكن أن تُشكّل رافعة سياسية وأخلاقية تُعيد توحيد الفلسطينيين، وتُعيد تقديم القضية للعالم بوصفها قضية شعب يُناضل من أجل الحرية، لا مجرد إدارة ذاتية محدودة الصلاحيات. وهي السبيل الوحيد لاستعادة الشرعية، وتحصين المشروع الوطني، وتجاوز حالة التآكل والانقسام، والانطلاق نحو مرحلة جديدة من النضال السياسي والميداني، تُعيد الاعتبار للتضحيات، وتُعيد بناء الأمل.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى