“بوتين يُفاوض من إسطنبول… وترامب يطارد الأشباح “

#بوتين يُفاوض من #إسطنبول… و #ترامب يطارد #الأشباح
بقلم: د. #هشام_عوكل أستاذ إدارة الأزمات والعلاقات الدولية


في الوقت الذي يحتفل فيه بوتين بعيد النصر الروسي الثمانين، جالسًا إلى جانب الرئيس الصيني شي جين بينغ، في مشهد رمزي أراد له أن يكون إعلانًا صريحًا عن التحالف الشرقي، خرج الرئيس الروسي من مشهد الاستعراض مباشرة إلى مشهد القرار: دعوة لحوار مباشر مع أوكرانيا، من إسطنبول، لا من جنيف، ولا من بروكسل، ولا حتى من واشنطن.
اختيار إسطنبول لم يكن عابرًا. تركيا ليست عضوًا في الاتحاد الأوروبي، لكنها عضو في الناتو. وهي ليست شريكةً كاملة للغرب، لكنها أيضًا لا تُحسب بالكامل على الشرق. رسالة بوتين كانت واضحة: الحوار من هنا، من منطقة رمادية تخدم المصالح الروسية، وتُقصي صراحةً العواصم الغربية عن أي دور مركزي في إدارة التفاوض.

هل طُردت أوروبا… وغُيبت أمريكا؟
بهذه الدعوة، بدا أن الرئيس الروسي يُقصي، أو على الأقل يُهمش، الدور الأوروبي التقليدي. ففرنسا وألمانيا لم تعودا لاعبين أساسيين في الملف الأوكراني، وواشنطن، رغم وجود رئيس أمريكي ترمب ، تبدو منشغلة بترتيب أولوياتها الداخلية أكثر من انخراطها في إنتاج حل فعلي للحرب
في هذا السياق، جاءت استجابة الرئيس الأوكراني زيلينسكي السريعة والمعلنة باستعداده لمقابلة بوتين، وكأنها تقرأ في اتجاهين: أولاً، أن زيلينسكي لم يعد يثق تمامًا بقدرة الغرب على فرض حل حقيقي. وثانيًا، أنه يمنح الرئيس الروسي منصة جديدة لإدخال الغرب مجددًا إلى المشهد، لكن هذه المرة كشاهد لا كمقرِّر. فهل هذا منطقي؟ هل الغرب – الذي فشل في حماية أوكرانيا ومنع الحرب – ما زال يملك شرعية الجلوس على طاولة الحل؟ أم أن اللعبة تغيّرت، وموسكو وحدها تُدير شروط الخروج؟
ترامب… يعود رئيسًا ولكن بأي مشروع؟
اليوم، دونالد ترامب لم يعد رئيسًا سابقًا أو مجرد مرشح قوي… بل هو الرئيس الحالي للولايات المتحدة الأمريكية، وقد مضى على انتخابه أكثر من مئة يوم. ومع ذلك، لا تزال ملامح سياسته الخارجية غامضة، تتكرر فيها وعود قديمة دون أي مقاربة واقعية.
لطالما تفاخر ترامب بقدرته على إنهاء الحروب خلال ساعات، وتحديدًا حرب أوكرانيا التي قال إنه قادر على إيقافها في أقل من 24 ساعة. لكن سجلّه السياسي لا يُعزز هذا الادعاء:
رفع الرسوم الجمركية على الصين إلى 145% ثم تراجع. هدد أوروبا بعقوبات، ثم تراجع. حاول شراء غرينلاند، فكان الرد دنماركيًا ساخرًا. طالب بملاحة مجانية للسفن الأمريكية في قناة بنما وقناة السويس، فقوبل بالرفض. توسط بين الهند وباكستان، ولم ينجز شيئًا.
استعراضات بلا نتائج، وشعارات بلا أثر.
زيارته للشرق الأوسط… مشروع سياسي أم حقيبة تبرعات؟
واليوم، مع زيارته المرتقبة إلى الشرق الأوسط، يتجدد التساؤل: هل يحمل ترامب مشروعًا جادًا للمنطقة؟ أم مجرد حقيبة دبلوماسية تبحث عن الدعم المالي والرمزي من أنظمة مأزومة؟
وفي خضم هذه الزيارات، تطفو غزة كساحة اختبار لا تقبل المناورة. القطاع الذي نُكِّل به بالحديد والنار، لا ينتظر مؤتمرات مانحين، بل ينتظر إجابات حقيقية.
غزة بعد الحرب… مشاريع أمريكية أم خرائط فارغة؟
تتداول الأوساط الغربية والعربية عدة سيناريوهات لما بعد الحرب في غزة: تغييب حماس، تمكين السلطة الفلسطينية، أو تشكيل حكومة تكنوقراط بإشراف إقليمي. لكن كل هذه التصورات تتجاهل حقيقة أن التجربة الأمريكية في إدارة المناطق المأزومة أثبتت فشلها.
العراق، الذي أدارته واشنطن بعد الغزو، تحول إلى دولة خارج التاريخ. وغزة ليست حقل تجارب جديد. من ينجو من القصف لا يخضع لخرائط خارجية.
واشنطن اولا ٫٫٫٫والبقية في خانة الاحتمالات
وفي خضم هذا المشهد، تبدو المعادلة مختلفة تمامًا عمّا يُشاع: فالحوثيون يمتنعون عن استهداف السفن التجارية العابرة في البحر الأحمر، في وقت تُظهر فيه الولايات المتحدة تركيزها الكامل على حماية مصالحها وسفنها فقط، دون الدخول في أي التزام مباشر يتعلق باستهداف إسرائيل. وكأنّ واشنطن تقول ضمنًا: “اضربوا من شئتم، ما دمتم لا تقتربون منّا”.
فهل نحن أمام تكتيك أمريكي يهدف إلى تحييد نفسها عن الصراع المباشر مع محور المقاومة، مقابل إتاحة مساحات مبهمة في الرد على إسرائيل؟
وهل إعلان ترامب عن استعداده للاعتراف بدولة فلسطينية يُقرأ كرسالة ضغط على تل أبيب… أم كغطاء تفاوضي جديد يُعيد ترتيب أوراق واشنطن في المنطقة دون أن يدفعها ذلك إلى مواجهة مفتوحة؟
خاتمة: من يكتب التاريخ؟
وهكذا، بين رئيس يحتفل بالنصر ويُعيد رسم الخرائط من موسكو وإسطنبول، وآخر يطوف الشرق الأوسط باحثًا عن نفوذ مفقود، تبقى الحقيقة في الميدان: الخرائط لا تُرسم بالأمنيات، والتاريخ لا يُكتب بالشعارات.
ومن يُقصي اللاعبين الحقيقيين عن الطاولة، سيجد نفسه لاحقًا خارج اللعبة كلها.
لكن السؤال الذي نتركه مفتوحًا في كل زاوية حادة يبقى: إذا كانت الحرب لا تُحسم بالسلاح فقط، فهل تُحسم بالخداع الدبلوماسي؟ أم أن الشعوب المنهكة هي وحدها التي تدفع ثمن الحروب المؤجلة؟

مقالات ذات صلة
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى