بريق على الطريق
سناء جبر
إن الحياة في تجلّياتها وتقلّباتها ودورانها عَودًا على بَدْء، تختبرنا في ما نحب ونكره ، تختبرنا في ما نملك القدرة على احتوائه و بين ما لا نملك سطوة عليه ولا طاقة ، بين أن نختار وبين أن يكون الأمر حتْمًا فرْضًا لا خيارَ فيه، بين أن تكون القائد والمقود ، أو أن تكون السيد وترفض وتتعالى وتترفع على أن تكون بأي حالٍ إمعةً وتابعًا. ولكن، على أرض الواقع والحقيقة ، هل تملك فعلا حق الاختيار بين أن تغضب في حين كان يجب عليك أن تفهم فتصمت وتبتلع غضبك فيتأجج داخلك ويحترق صدرك كتمانًا وتغيب حيث اللامكان ولا رجوع ، تلك الساعة اللعينة تأبى دوما وأبدًا؛ فلن تعود عقاربها إلى الوراء.
ما أحوجنا إلى العقل والتريث والحكمة، أن تجد الصمت ملاذًا وحلًا لا يرجح ولا يتفوق عليه أي حل آخر بديلًا عنه، فتحفظ كرامتك وشخصك من الابتذال والخوض في الترهات والاتهامات وسوء الظن، تترفع بنفسك عن الدخول في دنايا القول والفعل والفكر وسوء الظن. قد تتوجع وتتألم ، أكاد أجزم بقهر يصيبك ولا أشكك في ذلك ، لكن هذا الشعور وإن طال أمده فهو لا محالة زائل دون عودة ، زائل مع مسببيه فتزول الغمة ويثلج الصدر بعد تعب وإرهاق، وتبقى الإرادة صلبة بعد إن خلناها انكسرت أو تهشمت، ويرفرف قلبك للحياة مجددا فيونع ويورق مثبتا أنك لا تتضعضع ولا تهتز لك سارية أو يرقّ لك قلب أمام شماتة حاقد محدث للفتنة لا يرى العالم إلا من منظوره الخاص وهو الصواب وسواه على خطأ. نعم، سيرتفعون ويحصدون الأهداف وسيَظلِمون وسيتشدقون بكلمات لا يفهمونها، لكنها تخدع من حولهم ببريقها العذب وحروفها الناصعة. لكن، تذكروا جميعا أن ارتفاع الظالم سحق مضاعف له في النهاية فسقوطه سيحدث هزة عنيفة وانكسارة أشد أثرا (ويمدّهم في طغيانهم يعمهون).
لكن، ما البديل؟ وما الحل؟ فلنتمسك ببقعة الضوء الخافتة تلك نرى لمحاتها من بعيد، ستكون يومًا البريق على الطريق للقادم من الأيام، تشعر بها أنك ستنهض وتقف رغمًا عن أنف الصعاب والحاقدين، ستنمو فيك تلك المشاعر والثقة بما هو مزهر ينبئ بحياة للقلب والروح، سترتسم الضحكات على ثغرك مجددًا. وإن كنت تبحث عن الفرح ، فستجده هو من يبحث عنك، فلك في الدنيا متسع لكل ما يضج فيك من أحلام وطموحات استحالت بعد أن كانت ملأى بخيبات وانكسارات. هي سُقيا الله لك بتجديد الإيمان بقدرته رغم كل ما ذبل فيك ، فتزهر وتبرعم بفضله من جديد، واعرف تمام المعرفة لمن تلجأ ومن ترجو وبمن تعتصم، وانفض يدك مما سواه، وكن عزيزًا به وواجه الحياة بعزّة؛ فإن الأمورتجري بمقادير الله وحده وتذكر أن أجمل ما يمكن أن يصل إليه المرء بعد طول معاناة أن يؤمن من داخله أن الله بيده كل شيء.
وحتى يحين ذلك الوقت، سيكون الأمل بإحقاق الحق الذي هو زادنا الذي به نتزود على صعاب الأمور. ولولا الأمل نلوذ به، لضاقت الدنيا حولنا ولانكسرت أرواحنا وتهشمت بسبب قوي من سواد اشتعل في النفوس من الخيبات والانكسارات والمتناقضات التي نعيش فيها وتبرعم فينا يوما بعد يوم؛ تذكروا أن الأمل هو الزاد للطريق يضيء عتمة ويمحو غمة ويوقظ همة ويشعل فتيل القوة، وينهض بأمة. فلا ننس قول الطغرائي الأصفهاني:
أعلّل النفس بالآمال أرقبها ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.
وعليه، فمن الظلم أن نقيس حظوظنا في الدنيا بعدد الأشياء الجميلة التي لم نحظ بها ، دون النظر إلى الأشياء السيئة التي لم تصبنا … فلنكن منصفين حتى مع أنفسنا كي ننعم بالرضا، ويكون الرضا عندئذ سببًا كافيا لهدأة النفس وقرارة العين وصولا للتصالح مع الذات.
والدي العزيزين: أمي وأبي … الآن، وبعد عمر طويل، تعلمت أن الاختيار بين الأشياء التي أحبها والتي لا أحبها رفاهية لا أمتلكها ولا أمتلك جزءًا ولو بسيطا منها. وفي كثير من المواقف، تخيّرنا الحياة بين السيئ والأسوأ ، بين الأسود والكحلي، بين مرارة العلاقات وأوجاعها وبين مرارة الوحدة وقسوتها. وعندها، تعلمت أن أبتلع الآلام حتى لا يبتلعني اليأس، تعلمت أن أتجاوز اللحظات الحزينة حتى لا تبتلعني الوحدة، تعلمت أن أبتلع الحياة يا أمي، تعلمت أن أمضي قدمًا دونما التفاتة إلى الوراء يا أبي.