برلمان الإقصاء: ديمقراطية بطعم التفاهمات المغلقة!

#برلمان_الإقصاء: #ديمقراطية بطعم #التفاهمات_المغلقة!
بقلم: أ.د. محمد تركي بني سلامة

من كان يظن أن مجلس النواب الأردني سيبدأ دورته الجديدة بهذا الكمّ من “التفاهمات الذكية” التي تُدار في الغرف المغلقة؟! من كان يظن أن الديمقراطية لدينا ستتحوّل من ممارسة وطنية راقية إلى مسرحٍ للهندسة السياسية الدقيقة، تُقصى فيه كتلةٌ كبرى من أعرق الأحزاب السياسية وكأنها جرمٌ يجب تطهير الحياة البرلمانية منه؟!

ما حدث في انتخابات رئاسة المجلس والمكتب الدائم لا علاقة له بالتنافس الشريف، ولا بالتوافق الوطني، بل هو عملية “إقصاء ممنهجة” تثير السخرية قبل الغضب. يُراد لنا أن نصدق أن الديمقراطية تُدار بالاتفاق المسبق على من يفوز ومن يُقصى، وأن روح المشاركة السياسية تُختزل في مكالمةٍ ليلية بين كتلتين تتقاسمان المواقع كما تُقسم قطعة كعك في عيد ميلاد سياسي باهت.

للتاريخ كلمته. منذ عشرينيات القرن الماضي، يوم خطا الأردنيون أولى خطواتهم نحو المشاركة السياسية، لم تُقص المعارضة، ولم تُشيطن الأحزاب. الأمير عبدالله المؤسس كان يحتضن خصومه السياسيين، لا يطاردهم. وفي خمسينيات القرن الماضي، حين كان صوت المعارضة يعلو في الشارع، لم تُغلق الأبواب في وجهها، بل كانت جزءًا من المشهد الوطني.

مقالات ذات صلة

حتى في ذروة التحولات الكبرى، من التحول الديمقراطي عام 1989 إلى اتفاقية وادي عربة عام 1994، لم يكن الإقصاء نهجًا، ولم يكن التهميش ثقافة. لم تكن هناك أوراق نقاشية ولا شعارات “تحديث سياسي”، لكن كان هناك إيمان صادق بأن الوطن يتسع للجميع، وأن التعددية ليست ترفًا بل ضمانة لاستقرار الدولة.

أما اليوم، في زمن الأوراق النقاشية واللجان والبرامج، صار التعدد السياسي خطيئة، والمشاركة جرمًا، والاختلاف جريمة يعاقب عليها بالحرمان من المكتب الدائم!

ما يجري في مجلس النواب اليوم ليس “توافقًا”، بل هو “هندسة سياسية” تليق بمسرحية هزلية لا ببرلمان دولة. ما هكذا تُدار الديمقراطيات، وما هكذا تُبنى الثقة العامة بالمؤسسات المنتخبة. حين تتحول الكتل إلى صفقات، والمواقع إلى جوائز ترضية، والولاء معيارًا للتمثيل، فإننا لا نمارس السياسة، بل نمارس “التحييد” باسم الوطنية.

أيّ وطنٍ هذا الذي يُبنى على قاعدة: “أقصِ خصمك كي ترتاح”؟ أيّ تحديثٍ سياسيٍّ هذا الذي يبدأ بتقزيم أكبر كتلة حزبية منتخبة؟ وهل يُعقل أن يُقصى تيار وطني له حضور شعبي وسياسي، فقط لأنه لا يصفق في الاتجاه المطلوب؟

الرسالة التي تصل إلى الشارع اليوم ليست رسالة ديمقراطية، بل صفعةٌ على وجه كل من آمن بأننا بدأنا مسار الإصلاح السياسي الحقيقي. إنها رسالة تقول بصوتٍ مرتفع: “ابقَ خارج اللعبة ما دمتَ لا تُجيد التطبيل.”

أنا لست من حزب جبهة العمل الإسلامي، ولم أكن يومًا قريبًا من فكرهم، لكني ابن هذا الوطن الذي يرفض أن يرى خصومة تتحول إلى إلغاء. السياسة ليست حربًا أهلية باردة، بل ميدانٌ يتسع للخصم قبل الصديق. احترام المخالف ليس ضعفًا، بل قمة القوة. الدولة التي تخاف من حزبٍ أو فكرة، هي دولة تخاف من نفسها.

في مدارس الديمقراطية الحقيقية، يُحتفى بالمعارضة، لأنها ملح النظام السياسي. أما عندنا، فصرنا نحتفل بإقصائها، وكأننا ننتقم من فكرة الوطن نفسه. هذا ليس “ذكاءً سياسيًا”، بل ضيق أفق يختزل الوطن في مقعدٍ وموقعٍ وامتياز.

تتحدث الدولة صباحًا عن “التحديث السياسي” و”تجذير الديمقراطية” و”تمكين الأحزاب”، ثم نراها مساءً تُغلق الأبواب أمام حزبٍ فاز بتمثيلٍ شعبي حقيقي. كيف نُقنع الشباب بالانخراط في العمل الحزبي ونحن نُشاهد أكبر حزبٍ يُقصى عن التمثيل في اللجان والمكتب الدائم؟ كيف نزرع الثقة إذا كنا نُفرغ البرلمان من مضمونه الديمقراطي؟

ما يحدث اليوم لا يخدم الوطن، ولا يليق بمسار الإصلاح الذي تبنته الدولة. بل إنه يناقض صريح الرؤية الملكية للتحديث السياسي، التي قامت على الشمولية والمشاركة لا على العزل والإقصاء.

الوطن ليس مزرعة لأحد، ولا ميدانًا لتصفية الحسابات. الوطن يتسع لكل من يحبّه، مهما اختلف فكره أو انتماؤه. لا يُبنى الوطن بالإقصاء، بل بالتكامل. لا يُصان الأمن الوطني بتكميم الأحزاب، بل بإشراكها في القرار.

ما نحتاجه اليوم ليس مزيدًا من التفاهمات المؤقتة، بل رجالات دولة يدركون أن اللحظة التاريخية لا تحتمل العبث. نحتاج إلى مجلس نواب يعكس إرادة الأمة لا إرادة التفاهمات، وإلى برلمان يُشبه الأردن لا يُشبه غرف الفنادق التي وُلدت فيها الصفقات.

إن ما يجري تحت القبة اليوم لا يُسيء إلى حزبٍ بعينه، بل يُسيء إلى فكرة البرلمان ذاتها، وإلى صورة الأردن الديمقراطي التي تعبنا في بنائها. فهل آن الأوان لنُعيد للديمقراطية معناها قبل أن تتحول إلى شعارٍ على جدارٍ بلا حياة؟

الكاتب:
أ.د. محمد تركي بني سلامة
أستاذ العلوم السياسية – جامعة اليرموك

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى