
#اليوم_العالمي_للغة_العربية – 18 ديسمبر
﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾
في الثامن عشر من شهر كانون الأول/ديسمبر من كل عام، يقف العالم إجلالًا وإكبارًا للغة العربية، لغة الضاد، ولسان الحضارة، ووعاء الوحي، احتفاءً بها في يومها العالمي، اعترافًا بمكانتها، وتأكيدًا لدورها الإنساني والثقافي والحضاري.
وقد اختير هذا التاريخ تخليدًا لليوم الذي أصدرت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها رقم (3190) في ديسمبر عام 1973، القاضي باعتماد اللغة العربية لغةً رسمية ولغة عمل في المنظمة الدولية، بعد اقتراح تقدّمت به كلٌّ من المملكة المغربية والمملكة العربية السعودية خلال انعقاد الدورة (190) للمجلس التنفيذي لمنظمة اليونسكو. ولم يكن ذلك القرار مجاملة لغوية، بل إقرارًا عالميًا بقيمة لغة حملت العلم، ونقلت الفكر، وأسهمت في بناء الحضارة الإنسانية قرونًا طويلة.
لغة حيّة عبقرية متجددة لا تشيخ
تنبع أهمية اللغة العربية من عبقريّتها الفريدة، فهي لغة حيّة متجددة، قادرة على التكيّف مع مختلف العلوم والمعارف، من الطب والهندسة والجبر، إلى الفلسفة والفنون والعلوم الحديثة. وقد أثبتت عبر تاريخها الطويل أنها ليست لغة تراث فحسب، بل لغة ابتكار وإبداع، إذ أنتجت عقول العرب والمسلمين مؤلفات موسوعية مذهلة، جمع فيها المؤلف الواحد علومًا شتّى، وابتكر طرائق فريدة في التأليف، وسبك الأسلوب، ودقة البيان، حتى غدت تلك المؤلفات شاهدًا على ما يمكن تسميته بالإعجاز المعرفي.
اللغة هوية الإنسان
صدق الشاعر حين قال:
بِقَدْرِ لُغاتِ المَرءِ يَكْثُرُ نَفْعُهُ
فَتِلْكَ لَهُ عِندَ المُـلِمَّاتِ أَعْـوانُ
تَهافَتْ عَلى حِفْظِ اللُّغاتِ مُجاهِدًا
فَكُلُّ لِسانٍ في الحَقيقَةِ إنسانُ
فإذا كان تعلّم اللغات يوسّع المدارك ويثري العقول، فكيف إذا كانت اللغة هي العربية، اللغة التي اصطفاها الله تعالى لتكون لغة الوحي، ولسان القرآن، ورسالة السماء إلى الأرض؟
﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ أي: هو قرآن بلسان عربي مبين، لا اعوجاج فيه ولا انحراف ولا لبس، بل هو بيان ووضوح وبرهان، وإنما جعله الله [عز وجل] كذلك، وأنزله بذلك (لعلهم يتقون) أي: يحذرون ما فيه من الوعيد، ويعملون بما فيه من الوعد.
لغة تواجه التهميش بثبات
يلفتنا الشاعر نزار قباني، بمرارة صادقة، إلى مأساة بعض أبنائها الذين يعادون لغتهم جهلًا أو استعلاءً، فيقول إن العربية تضايقهم لأنهم لا يحسنون قراءتها، وتزعجهم عباراتها لأنهم لا يجيدون تركيبها، فينكرون تاريخها، ويسخرون من كنوزها، ويتعالون على أعلامها، وهم – في الحقيقة – عاجزون عن فتح كتاب، ويريدون خوض البحر وهم يتعثرون بقطرة ماء.
وهنا تكمن المفارقة المؤلمة: لغة عظيمة، لكن بعض أهلها يقصّرون في حقها، ويتركونها وحيدة في مواجهة النسيان.
لغة عالمية الجذور والانتشار
تُعد اللغة العربية من أقدم اللغات السامية وأغناها، وأكثرها عددًا من حيث المتحدثين، إذ يتحدث بها أكثر من 422 مليون إنسان، ينتشرون في الوطن العربي ومناطق عديدة حول العالم. وهي من أكثر اللغات استخدامًا على شبكة الإنترنت، ومن أسرعها نموًا وانتشارًا، مما يدل على حيويتها وقدرتها على مواكبة العصر.
وللعربية مكانة خاصة لدى المسلمين، فهي لغة القرآن الكريم، ولا تصحّ الصلاة إلا بتلاوة آياتها، مما يجعلها لغة عبادة وروح، لا مجرد أداة تواصل.
ثراء لغوي لا يُضاهى
تتميّز اللغة العربية بخصائص قلّ أن تجتمع في لغة أخرى؛ فهي لغة اشتقاق، قادرة على توليد الألفاظ، واستيعاب المصطلحات الأجنبية وتعريبها بضوابط دقيقة. وفيها الترادف الذي يثري المعنى، والأضداد التي توسّع الدلالة، والمشتركات اللفظية التي تعمّق الفهم. كما تزدان بالمجاز، والتشبيه، والطباق، والجناس، والمقابلة، والسجع، وتبلغ ذروة الجمال في علوم البلاغة والفصاحة، بما تحويه من محسنات لفظية ومعنوية، تجعلها لغة قادرة على التعبير عن أدق المشاعر وأعمق الأفكار.
لغة تُهذّب العقل والروح
لا تمنح العربية متقنها قدرة على البيان فحسب، بل تمنحه قيمة إنسانية وأخلاقية. فقد رأى الإمام الشافعي أن الإكثار من دراسة النحو يُرقّ الطبع ويهذّب النفس، وأكد العلماء أن الاعتياد على العربية يؤثر إيجابًا في العقل والخلق والدين. وقال ابن هُبَيْرة: لا يستوي رجلان في الدين والمروءة أحدهما يلحن والآخر لا، بل يُفضّل في الدنيا والآخرة من سلم لسانه من اللحن. ويؤكد الشيخ بكر أبو زيد أن سلامة اللسان جلالة، وصفاء ذوق، وصحة فهم، وأن اللحن – كتابةً ولفظًا – يُخلّ بالمعاني ويشوّه البيان.
وفي الختام
في يومها العالمي، لا نحتفي باللغة العربية بالشعارات وحدها، بل بإحيائها في حياتنا، وتعليمها لأبنائنا، والاعتزاز بها في خطابنا وفكرنا وإبداعنا. فهي ليست ماضيًا نرثه، بل مستقبلًا نصنعه، ولسان هوية، وجسر حضارة، ورسالة خالدة.


