الولايات المتحدة والكيان الصهيوني: تحالف المصالح وحدود الجغرافيا

#المتحدة و #الكيان_الصهيوني: #تحالف_المصالح و #حدود_الجغرافيا

بقلم : المهندس محمود “محمد خير” عبيد

لم تكن العلاقة بين الولايات المتحدة والكيان الصهيوني يومًا قائمة على الالتزام المطلق أو الانحياز العقائدي، كما تُصوَّر أحيانًا في الخطاب الشعبي أو الإعلامي، بل كانت وما تزال علاقة تُديرها واشنطن بمنطق المصالح وحسابات القوة في الشرق الأوسط والعالم. فالدعم الأميركي الثابت لإسرائيل لا يعني بالضرورة موافقة على كافة مشاريعها التوسعية، بل غالبًا ما يُضبط هذا الدعم ضمن معادلات استراتيجية دقيقة، لا تسمح بقيام “دولة إسرائيل الكبرى” ولا بفرض وقائع جغرافية جديدة تهدّد توازنات الإقليم أو تُقحم الولايات المتحدة في مواجهات لا تخدم أجندتها الكونية.

هذا الموقف ليس جديدًا، بل متجذّر في تاريخ الإدارات الأميركية المتعاقبة، جمهورية كانت أم ديمقراطية. فمنذ حرب 1967، ورغم الانتصارات التي حققتها إسرائيل حينها، حرصت واشنطن على عدم منح شرعية دائمة لأي توسع جغرافي على حساب الدول العربية، ورفضت الاعتراف بضم الضفة الغربية أو الجولان السوري، إلا بعد سنوات طويلة وتحت ضغوط داخلية وظروف سياسية معيّنة. فالولايات المتحدة، في نهاية المطاف، لا تريد قيام قوة إقليمية كبرى في الشرق الأوسط، حتى وإن كانت حليفة لها. إذ أن وجود كيان يمتد جغرافيًا ويستقطب رؤوس الأموال اليهودية من الداخل الأميركي، من شأنه أن يُضعف الاقتصاد الأميركي نفسه، ويُحوّل بعض مفاتيح القرار من واشنطن إلى تل أبيب، وهو ما لا يمكن أن تقبله الإمبراطوريات.

مقالات ذات صلة

جاءت الحرب الأخيرة بين الكيان الصهيوني وإيران في منتصف عام 2025 لتؤكد هذا التوجه الأميركي بوضوح لا لبس فيه. فبينما شنّت إسرائيل ضربات مباشرة على منشآت إيرانية، محاولة استدراج الولايات المتحدة إلى مواجهة شاملة، امتنعت واشنطن عن الانجرار الكامل، واكتفت بتدخلات محدودة تهدف إلى منع انهيار التوازن الإقليمي دون الذهاب نحو حرب مفتوحة. لقد رفضت الولايات المتحدة – سواء عبر البيت الأبيض أو البنتاغون – أن تتحول إلى أداة عسكرية تخوض حربًا بالوكالة عن تل أبيب، رغم التصعيد الإعلامي والدبلوماسي الذي مارسته حكومة الاحتلال.

المثير في تلك المرحلة كان تصريح الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، الذي لم يتردد في مطالبة رؤوس الأموال اليهودية في الولايات المتحدة بدفع تريليون دولار لخزينة الدولة، إذا ما أرادوا أن تقف أميركا بكل ثقلها خلف إسرائيل في مواجهتها مع إيران. وقد استنكر ترامب علنًا قيام هذه القوى المالية بتحويل أموالها مباشرة إلى إسرائيل، متجاوزين الدولة الأميركية، في مشهد يعكس بوضوح أن العلاقة مع تل أبيب حتى في ظل أكثر الإدارات الأميركية تأييدًا لإسرائيل لا يمكن أن تُدار بمنطق العاطفة أو الالتزام المجاني. إنها علاقة مصالح بحتة، تخضع لميزان دقيق بين الربح والخسارة.

ما حدث في قاعدة “العديد” في قطر، حين ردّت إيران بقصف محسوب لم يُسفر عن قتلى أميركيين، لم يكن سوى مؤشر إضافي على أن خطوط الاتصال بين واشنطن وطهران لم تنقطع، وأن التنسيق غير المباشر ظل قائمًا، حتى في ذروة التصعيد العسكري. لقد بات واضحًا أن واشنطن لن تسمح بتحوّل الحرب الإسرائيلية–الإيرانية إلى مواجهة أميركية–إيرانية، لأن ذلك لا يصب في أولويات الاستراتيجية الأميركية، بل قد يُربك حساباتها مع الصين وروسيا وأوروبا، ويُجهض مشاريعها في الطاقة والتكنولوجيا والأمن السيبراني.

في هذا السياق السياسي، يُعاد باستمرار طرح “حل الدولتين” كمخرج سلمي للقضية الفلسطينية، وكأن العالم يكتشفه كل مرة من جديد. غير أن الحقيقة، كما يعرفها من قرأ الوثائق والمعاهدات الأميركية والإسرائيلية منذ السبعينات، أن هذا الحل ما هو إلا شعار استهلاكي موجّه للاستهلاك الإعلامي والدبلوماسي، لا أكثر. فالقرار المبدئي بعدم قيام دولة فلسطينية حقيقية قد اتُّخذ منذ عام 1973، وما تلاه من محطات تفاوضية – من مدريد إلى أوسلو وصولًا إلى كامب ديفيد – لم يكن سوى محاولات لتخدير الشعوب العربية والرأي العام الدولي بشعارات زائفة، مع الإبقاء على واقع الاحتلال والسيطرة كما هو. يُرفع شعار الدولة الفلسطينية ليبقى حلًّا مؤجلًا باستمرار، يُستخدم كغطاء لتمرير السياسات على الأرض، لا كإرادة حقيقية قائمة على الاعتراف والعدالة.

من هنا، يُفهم الموقف الأميركي الرافض حتى الآن لضم غزة أو الضفة الغربية بشكل رسمي ودائم إلى السيادة الإسرائيلية. إذ أن أي خطوة من هذا النوع تُقابل برفض ضمني – أو أحيانًا علني – من دوائر القرار في واشنطن، لأنها تعني انهيار حلّ الدولتين، واندلاع موجة جديدة من العنف والفوضى قد تمتد لسنوات. كما أن مثل هذه الخطوة تعرقل مساعي التطبيع الإقليمي، وتُحرج حلفاء واشنطن العرب الذين تسعى الولايات المتحدة للإبقاء عليهم في معسكرها الإقليمي.

الرسالة الأميركية في هذه المرحلة واضحة: يمكن لإسرائيل أن تحظى بدعم سياسي وعسكري واقتصادي، لكن ضمن حدود لا تتجاوز فلسطين التاريخية. لا مكان في الاستراتيجية الأميركية المعاصرة لدولة إسرائيل الكبرى. لا مساحات جديدة على الخارطة، ولا جغرافيا تُعاد رسمها على حساب شعوب ودول الجوار. فالمصالح الأميركية، وهي الحاكم الأول في توجيه السياسات، تقتضي الحفاظ على حالة من الاستقرار القلق، والتوازن المدروس، حيث يبقى الجميع تحت سقف النفوذ الأميركي، دون أن يتمدد أحد خارج حدود اللعبة.

إن الكيان الصهيوني، بكل ما يملكه من دعم داخلي في واشنطن، لن يتمكن من فرض مشروعه التوسعي ما لم تتغير الإرادة الأميركية. وهذا التغير غير مرجّح في المدى القريب، لأن العالم اليوم يتجه نحو التعددية القطبية، وأميركا تسعى جاهدة لحماية مواقعها، لا لتوسيع جغرافيا حلفائها.

وهكذا، فإن حلم “إسرائيل الكبرى” سيظل حبيس الخيال السياسي، ما لم تتغير موازين القوة العالمية، وما لم تُضف واشنطن هذا المشروع إلى سلّم أولوياتها الاستراتيجية… وهو احتمال لا يزال بعيدًا عن الواقع حتى اللحظة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى