الوجه الحضاري لخلاف أردوغان وداود أوغلو
قال يونس الصدفي: ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوما في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني، فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخوانا وإن لم نتفق في مسألة؟
يعلق الإمام الذهبي على الواقعة فيقول: هذا يدل على كمال عقل هذا الإمام، وفقْه نفسه، فما زال النُظراء يختلفون.
كنت أحسب أن مثل هذه الروح التي تستوعب الخلاف مع الآخرين، وتفرّق بين اختلاف الرأي وشقاق القلوب، لا مكان لها بين أهل السياسة والسلطة، حتى حدث ما أسماه البعض بالزلزال المفاجئ في حزب العدالة والتنمية التركي.
ما إن برز الخلاف بين رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء أحمد داود أوغلو الذي يترأس الحزب، حتى تداعت الأقلام والأبواق كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، لتقتات على ذلك الخلاف، وتبشر بزعزعة النظام التركي.
فمن يطالع الصحف التركية والعربية، يرى في الكثير منها سعيا للاصطياد في الماء العكر، ليتم تصوير الخلاف على أنه صراع على الزعامة ودكتاتورية واستبداد، وأنه يُنذر بتراجع العملاق التركي ودوره في المنطقة.
وأعلم يقينا أنها من قِبَل الكثيرين أمنيات لا تحليلات، فلن يجد أعداء تركيا –وهم كُثُر – فرصة أنسب من هذه، للطعن في الحزب الذي أدار الدولة باقتدار طيلة 14 عاما.
ربما انصبّت كل التعليقات والمقالات على طبيعة الخلاف بين الرجلين، وسرْد أسبابه، إلا أنه تم تجاهل الوجه الحضاري لهذا الخلاف، والذي يؤكد على ما عنونتُ به سابقا لمقالتي “العدالة والتنمية.. الحزب الذي لا يهبط إلا واقفا”، فهو حزب راقٍ في ذروة إنجازاته وحتى في غمْرة كَبَواته على السواء، ولا تزيده الضربات إلا قوة، يُذكِّر بما قاله الأحوص:
ما من مصيبة نكبةٍ أُرمى بها إلا تشرفني وترفع شاني
خلاف قوي، لأنه حدث بين الأقوياء، بين رئيس للجمهورية قد أسس الحزب وقاده بما لديه من كاريزما قيادية وحنكة سياسية، ليقفز بتركيا خارج القفص، وبين رئيس للوزراء خرج من أروقة الجامعات والدراسات العلمية، ليصيغ السياسة الخارجية لتركيا الحديثة، ويتصدر لقيادة الحكومة في وقت عصيب تتشابك وتتعقد فيه الملفات الداخلية والخارجية، ويقودها باقتدار.
الخلاف يدور في عرين الحزب، بين رؤية المؤسس الذي صار رئيسا للجمهورية بما له من كتلة عظيمة مؤيدة داخل الحزب، وبين الرئيس الفعلي لذلك الحزب والذي يسعى لممارسة صلاحياته الحزبية، ولن أخوض في تفاصيل الخلاف لكنني أقف عند كيفية التعامل معه واستيعابه.
ذلك الخلاف هو ظاهرة صحية يشهدها الحزب رغم كل شيء، ولا يُتصور بلوغ حزب من الأحزاب ذروة النضج والتطور، بدون تلك المنعطفات، التي يعقبها غالبا نقد وتقييم ذاتي، وإعادة ترتيب الأوراق داخل البيت الواحد، وضخ دماء جديدة في قيادات الحزب.
لكننا مع طغيان ذلك الخلاف على أحاديث وسائل الإعلام، وبرغم وجود أجنحة وتيارات داخل الحزب الواحد تختلف توجهاتها، إلا أننا لم نشهد في مسار تلك الخلافات مؤامرات تُحاك للتشهير بهذا أو ذاك، أو القضاء عليه سياسيا، فجميع الأطراف حتى لو أخطأت في رؤيتها إلا أن العنصر الثابت داخل الحزب هو تغليب المصلحة الكلية، فجميع أعضائه وقياداته تتعامل مع الحزب على أساس أنه قاطرة النهضة التركية.
أحمد داود أوغلو الرجل المبتسم، قطع على المغرضين وساوس الشيطان، وقصَم آمال المتربصين في أن تشب نار الخلاف بين القائديْن لتلتهم الحزب، وتحرق تركيا، فآثر الترجّل، وفضّل خسارة منصبه على خسارة رفقاء دربه، رافضا أي تشكيك في متانة العلاقات بينه وبين الرئيس، لترتفع أسهمه في تركيا والمنطقة بأسرها.
ولا أتصور ألا يكون لأردوغان دور في هذا الاحتواء، وربما تضمنت كواليس لقاء القائديْن الكثير مما نجهله، ويصب في صالح استقرار الحزب وتقديم المصالح الكلية للدولة التركية.
إنني على يقين من أولئك الرجال الذين أفنوا شبابهم في النضال والجهاد من أجل دينهم ووطنهم، يترفعون عن تقديم الأنا والمصالح الشخصية والبحث عن الزعامة على حساب المبادئ، فأمثالهم تخرجوا من المدرسة اليوسفية (السجن)، وذاقوا مرارة الغربة في أوطانهم عندما واجهوا سطوة أعداء الهوية، وهجروا الراحة والدَّعة من أجل إقرار الحق والعدل، فأَنَّى لهم بسفساف الأمور؟!
حتى ندرك عِظَم احتواء الخلاف في عرين الحزب، وحتى نُقيِّم موقف داود أوغلو حق التقييم، فلننظر إلى رحيله الهادئ وإعلاء المصالح العليا، وفي المقابل ننظر إلى زعماء ورؤساء أحرقوا الأرض وأهلكوا الحرث والنسل من أجل الإبقاء على عروشهم، فشتان بين الثرى والثريا؟
وبالرغم من تلك الصورة القاتمة التي رسمها التناول الإعلامي للحدث، والتخويف من المصير المجهول الذي ينتظر تركيا، إلا أنني على العكس من ذلك، متفائلة.
متفائلة أولا بحزب العدالة والتنمية، وثقتي في حرصه على المضي في قيادة الدولة التركية لنهضة حقيقية شاملة، وأن الحزب ليس أردوغان، وليس داود أوغلو، فهي قواعد تم إرساؤها، ومبادئ تم إقرارها، وثوابت تم تثبيتها، مهما تغيرت الإجراءات والتكتيكات، فلن تقف مسيرة الحزب على الأشخاص.
ومتفائلة أيضا بالشعب التركي، الذي يستفيد من التجارب، ويلتف حول الثقات، ويحب وطنه بحرارة، من أن هذا الشعب مهما تغير قادته وحكامه، ومهما كان مسمى الحزب الحاكم الذي يقود مسيرته، لن يرضى عن النهضة التركية بديلا، فالشعب تذوق طعم النجاح، وطعم الشعور بالقوة الإقليمية والدولية.
ستمخر سفينة الأتراك كسفينة نوح، بسم الله مجراها ومرساها، حفظ الله تركيا وشعبها وقيادتها المخلصة.