المنظومة العربية ؛ هل هي النهاية؟
انهيار الإمبراطورية العثمانية، وتنافُس القوى الدولية على ما كان يُعرف بتَرِكة الرجل المريض، أحال المنطقة العربية إلى كيانات سياسية صغيرة (دويلات)، حاول بعضها الانتقال تدريجياً إلى “دولة وطنية” بالمفهوم الويستفالي، وظل بعضها الآخر يراوح بين القبيلة والمؤسسة. بينما انغرس في وسط هذه الكيانات، كيان طارئ غريب، أُطلق عليه بالكثير من الكراهية والدقة في آن، اصطلاح الغدّة السرطانية.
لكنّ هذه الدويلات في صراعها من أجل الاستقلال، وأحياناً التحرُّر والتحرير، اصطدمت بوقائع جغرافية وسُكّانية، وعوامل موضوعية وغير موضوعية أخرى قاهرة، فرضت عليها التكيُّف مع أشكال من التبعيّة للقوى الدوليّة النافذة في المنطقة، وأحياناً القوى الإقليمية. وفي ظل هذه التبعيّة، ظلت محاولات خلق منظومة عربية جامعة، مجرد محاولات شكليّة، كما أخفقت جميع محاولات الوحدة باستثناء اتحاد الإمارات السبع، وظل التضامن والعمل المشترك في حدوده الدنيا.
لكنّ هذه المنظومة التي تمثلت في “الجامعة العربية”، على علّاتها، كانت تؤدي دوراً مهماً، وهو البقاء، ومنع تشظّي الكيانات المُؤسِّسة لها، أو افتراسها من القوى الإقليمية الطامعة. واستجابةً إلى دواعٍ أمنية وسياسية واقتصادية، أنشأت بعض الأقاليم العربية منظومات إقليمية فرعيّة “مجالس التعاون الخليجي، والعربي، والمغاربي”. لم يبق منها على أرض الواقع سوى المنظومة الخليجية التي تتمثل بـ “مجلس التعاون لدول الخليج العربية”.
اليوم، وبعد مخاض عسير لما يعرف بـ “الربيع العربي”، يبدو أن مسار بناء “الدولة الوطنية” قد أخفق أو كاد، في معظم أرجاء المنطقة، وبات واضحاً للعيان بأن المنظومة العربية هي “الرجل المريض” الجديد، وأن قُوىً إقليمية ودولية عديدة تتحفّز للانقضاض على تركته. وبعيداً عن أيّة ملاحظات جانبيّة، أو رتوش لتلطيف الحقيقة، أظهرت الأزمة السورية مثلاً، أن طرفين إقليميّين، وطرفا دولياً، يجتمعون لتقرير مستقبل بلد عربي، دون أي حضور للمنظومة العربية (الجامعة العربية)، أو حتى لطرف عربي واحد؛ وهو ما يعني عملياً انتهاء دور المنظومة العربية.
وبينما تعمل تركيا على تفكيك “الجامعة العربية”، لتشكيل منظومة جديدة، يُعترَف فيها بتركيا طرفا مهيمناً، استناداً إلى النزعة الأردوغانية “النيوعثمانية”، وباستخدام ورقة “الإخوان المسلمين” كأداة تنفيذية. تواصل إيران السعي لتفكيك “مجلس التعاون الخليجي”، وإنشاء منظومة إقليمية بديلة تشمل العراق وإيران، وبما يجعل الأخيرة طرفاً مهيمناً فيها. وذلك استناداً إلى مزيج من الأحلام الإمبراطورية الفارسية، والجيوبوليتيك الشيعي، وباستخدام ورقة الأقليات المذهبية، والدينية في العالم العربي.
وإذا كان المشروع الإيراني سعى لعبور العراق وسوريا ولبنان وصولاً إلى المتوسط، وحاول فرض الهيمنة على الممرات المائية من هرمز إلى باب المندب. فإن المشروع التركي بدأ عملية استكشاف موروثه العثماني في البحر الأحمر، عبر السودان وجزيرة سواكن. ولو ظلت الرياح تسير كما اشتهت سفن السلاطين في القاهرة، لكانوا اليوم يهيمنون على قناة السويس، المعبر الوحيد من الأحمر إلى المتوسط أيضاً. ولا يبدو أنهم يئسوا أو توقفوا عن المحاولة.
في ظل هذا التنافس الجيوستراتيجي في المنطقة، تستشعر بعض الدول العربية حاجة ملحّة لترميم المنظومة العربية، على افتراض أنه لا يزال هناك إمكانية لإنعاش هذه المنظومة، قبل تصدُّعها أو انهيارها بشكل كامل، وهو ما يتطلب بناء حائط صدّ عربي يمنع تقدُّم المشاريع الإقليمية، والعيون تتجه طبعا إلى الرياض والقاهرة.
يقول وزير خارجية عربي في تغريدة عبر “تويتر”، بأن “النظام العربي في مأزق، والحل في التعاضد والتكاتف والتعاون أمام الأطماع الإقليمية المحيطة”. هذا تشخيص دقيق. لكن الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها أيضاً، أن أمراض العالم العربي لا يمكن علاجها اليوم عبر منصة تواصل اجتماعي، أو موقف سياسي. ترميم المنظومة العربية يتطلب قرارات شجاعة، وتضحيات، وأموال، ودماء. يتطلب إنقاذ الدول العربية التي لا تزال صامدة على حواف الصّدع الجيواستراتجي مثل لبنان، والأردن. ويتطلب استعادة “هيبة الدولة” المصرية قبل المطالبة باستعادة “الدور الإقليمي” المصري. يتطلب إنجاز “مصالحة فلسطينية” على أساس “مشروع وطني” للتحرير؛ مشروع يستند إلى الداخل الفلسطيني أولاً، ويحظى بدعم وتأييد عربي؛ دعم لا يرافقه توجيه للخيارات، أو استثمار في العوائد. أما عملية استعادة العراق وسوريا واليمن فباتت تتطلب إلى جانب ما سبق، كثيراً من المرونة، والتفكير الخلّاق، والقرارات الشجاعة.
لا يبدو أن هناك الكثير من الأمل في المنطقة، ونحن نغادر سنة 2017، أو تغادرنا غير مأسوف عليها، أو علينا. لكنّ إخفاقًا في ترميم المنظومة العربية، قد يحوّل العرب إلى جماعات بشرية تائهة لا قدّر الله، بلا مشروع، ولا هدف، ولا مستقبل. فهل نبادر إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه؟