العين و المخرز / سعيد ذياب سليم

العين و المخرز
سعيد ذياب سليم

تخرج الخيول من كهفها السحري قرب بحر غزة ، تجري كالموج الثائر يغطيها الليل والرذاذ و أشواق العابرين نحو الموت ، تشعل فتيل المعركة ، تقدح أزندة البنادق وترمي بالنار الطيور السوداء التي تحمل الموت وتلقيه والبارود على مدن الصفيح حيث يستظل الأطفال و النساء و الأبطال.
تخرج من متاهة “مينوتور” تسير في أزقة المدينة ، تتفقد الثكالى و تحرس الليل ، تهدهد الاطفال تلاحق صدى القذائف و تجمع الأشلاء و لعب الاطفال التي مزقتها الطيور السود تذكارات من رحلوا . تلاقي الموت كل ليلة ساخرة من عباءته المصنوعة من ملابس الأطفال المقطعة، تضحك منه كل ليلة فهو المهرج الذي نسي نصّه في خضم موجة من ضحك، توصله إلى ضفة الخلود و تتركه مع وجبته الليلية ، كم هو حنون هذا الموت ! يحمل أسرا مجتمعة حتى لا يعذبها الفراق، يتفقد الضحايا كل ليلة و يعيد ترتيب القائمة، يترك رجلا يداعب زوجته و طفلا يكتب واجبه المدرسي ثم يلوّح بيديه قائلا : إلى الغد.
لا تميز بينهم و سائل الإستشعار عن بعد فكلهم أبطال سمر و كلهم مطلوبة رقابهم لحد المقصلة ، صدر القرار بقتلهم ..حتى إن كانوا في المعابد أو أحضان زوجاتهم . أوصدوا عليهم البيبان و الأجواء و عطلوا السفائن لكن ” مينوتور ” و هبهم متاهته و سحره و قوته.
من أجل دعاية انتخابية يُقتلون ، يمثلون أهدافا متحركة يراهن الجند على إصابتها من الفضاء يقتلونهم و يضحكون لكنهم يموتون مبتسمين فقد أعياهم الانتظار .. هذه المدينة تعيش في انتظار الموت ترقب خطوه على الشاطئ فوق الرمل ، على إسفلت الشارع في المدرسة و الملعب و المقهى لكنه يأتي على مهل و ينتقي ضحاياه الأعز و الأكثر براءة.
لن يأتي اسماعيل اليوم إلى المدرسة سيبقى مقعده فارغا ، بالأمس رحل و إخوته و جيرانه مع الموت ، سيغالب معلمه حزنه ويقف مذهولا أمام سجل الغياب هل يسجّله غائبا و الشهداء لا يغيبون ! سيفتقد ابتسامته الساخرة من كل شيء ، شقاوته مع زملائه ، لماذا يرحلون و يتركون لنا هذا الفراغ الحزين؟
تعزف ألحان النصر إذاعات و قنوات فضائية بعيدة يفصل بينها و بين مدينة الصفيح المحاصرة آلاف الكيلومترات ، تعرض الشاشات أسلحة و رجالا مقنعين و مقاطع من أسطورة قديمة ، فدرب النضال يمر من مدن كثيرة تتغير بتغير المناخ السياسي. لكن ثمن النصر كان باهظا ، دفع ثمنه الأطفال والأمهات و العجائز من دموعهم و حيرتهم و خوفهم قبل أن يدفعوه من دمائهم و صمتهم يصرخ فوق شفاههم: لماذا نحن؟
تعود الخيول إلى كهفها السحري بعد جولتها ، تمسح الغبار و الدماء و تحتسي الدموع في وداع من مضى ، تشحذ النصال و تعمّر البنادق، واضعة الخطط فالصراع مستمر في غزة هاشم ، انتهت جولة لتبدأ جولة أخرى .. ربما غدا أو بعد غد ، في الصباح أو المساء ستثبت لنا هذه المدينة أن العين تقاوم المخرز.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى