سواليف
بدايةً وقبل أن نغوص في عالم الترجمة الآلية Google Translate ، أتمنى على القارئ أن يأخذ نَفَساً عميقاً؛ لأننا سنصل إلى أعماق ربما نحطم من خلالها أرقاماً مسجلة في موسوعة غينيس للبقاء أطول فترة ممكنة تحت الماء دون معدات تنفس!
طبعاً كما هو معروف لو سألت أي شخص عن تعريف الترجمة بمفهومها العام لأجابك بأن الترجمة هي عملية نقل المعنى من لغة إلى لغة أخرى واكتفى بذلك، وهذا التعريف دون أدنى شك تعريف صحيح، لكنه منقوص من حيث الجوهر؛ لذا أضيف عليه مع ضرورة مراعاة ثقافة اللغة الهدف وجمهور القرّاء المستهدف حتى يفي النص المترجم بهدفه والغرض الذي ترجم لأجله، وإلا لكانت عملية الترجمة كمن عرّف الماء بعد الجهد بالماء (ويمكن هنا لمن أراد الاستفاضة في هذا الصدد الرجوع إلى نظرية Skopos Theory أو “نظرية الهدف”).
أما عن أساليب الترجمة فهي تختلف في استراتيجياتها العامة المعتمدة، وقد تصب في بحار مختلفة؛ حيث بدأت هذه الأساليب تتبلور عن طريق الإنسان الذي يجسد أكبر قاموس لغوي متحرك على وجه الأرض، ولا يختلف اثنان في أن أي شخص Bilingual أو “ثنائي اللغة” يمكن له أن يلعب دور القناة التي تنقل المعنى من لغة إلى أخرى شريطة أن يتقن اللغة المصدر، واللغة الهدف تحدثاً وكتابةً، وأضيف هنا أيضاً معلومة قد تخفى على البعض، بأن معرفة لغتين وإتقانهما جيداً يحتاج أيضاً بالضرورة إلى الخبرة والدراية التامة بشعاب ودهاليز عالم الترجمة ونظرياتها وعلومها الحديثة، فمن يعشق احتراف الصيد لا يمكن له أن يصطاد قرشاً أو حوتاً بسنارة صيد هزيلة!
ومع التطور التكنولوجي والتقني الحديث الذي لم ينجُ منه أي علم أو باب معرفي ظهر ما بات متعارفاً عليه بالترجمة الآلية Machine Translation، والتي تعرّف على أنها الخدمة التي توفر ترجمة النصوص أو الجُمل أو العبارات من لغة إلى لغة أخرى عن طريق برمجيات حاسوبية معينة دون أن يكون لكائن بشري الفضل في إتمام هذه العملية.
وعلى ما يبدو بأنّ ظهور مثل هذه البرمجيات الترجمية الآلية أدى إلى حدوث شرخ عميق في العالم الترجمي وبين رواد ومحبي وعشاق هذا العالم الغني بمعارفه، والذين انقسموا بين مهللٍ ومرحبٍ بهذه البرمجيات على اعتبارها ترقى بالمجال الترجمي وتقنياته المتوافرة، وبين ناكرٍ ورافضٍ لمثل هذه التقنيات على اعتبارها عاجزة تماماً على استبدال الدور البشري الذي لا غنى عنه (وهذا صحيح)، ناهيك عن كونها ستسهم في تلوث العالم الترجمي من خلال ظهور نصوص مترجمة آلياً وغير مضبوطة لغوياً، والتي ستغزو مواقع التواصل الاجتماعي والشبكة العنكبوتية، كيف لا وقد أصبح بمقدور أي إنسان مهما كان مستواه العلمي والمعرفي الاعتماد على مثل هذه البرمجيات لترجمة نصوص معينة وترويجها دون أدنى دراية بمدى جودة الترجمة وصلاحيتها للنشر والاعتماد كنص مترجم؟!
وبين هذا وذاك، شعر الإنسان العادي أو الطالب العربي خصوصاً بالضياع أو التشتت حيال هذه البرمجيات المتاحة التي توفر له خدمات ترجمية مجانية لمختلف المقالات والكتب الأجنبية التي تمثل المورد المعرفي الأساسي لأي طالب عربي، لا سيما مع الشح الذي تشهده المكتبة العربية في مختلف المجالات، مما دفع هذا الطالب إلى رفع سقف توقعاته حيال مثل هذه البرمجيات الترجمية الآلية، فراح يطالبها بما لا طاقة لها به، وراح أيضاً يتهمها بالتقصير والفشل في أداء مهامها المتمثلة بترجمة نصوص كاملة بلغة سليمة تخلو من الأخطاء اللغوية والقواعدية وتروي عطشه المعرفي والبحثي، دون أن يدرك أنّ مثل هذه البرمجيات لم تستحدث أساساً لأداء مثل هذه المهام وهي بالأصل عاجزة تماماً عن القيام بالمهمة الترجمية الموكلة لها على غرار ما يقوم به المترجم البشري الذي يملك من الخبرة والمعرفة اللغوية الكثير.
فلا بدّ لك وأنت تتمشى بين أروقة المجموعات الفيسبوكية المعنية بشؤون الطلاب أو تعلم اللغات، بأن تصادف الكثير من التساؤلات المطروحة حول أفضل مترجم نصي إلى متاح؛ حيث تجمع هذه التساؤلات بمجملها على لعن وسب وشتم “Google Translate” وعلى كونها تبحث عن بديل أكثر ذكاء وحنكة ودراية لغوية من ذاك الـ”Google Translate” الغبي الذي ينتج نصوصاً مترجمة تفتقد إلى أدنى دقة وضبط لغوي يمكن أن يتخيله العقل البشري، دون أن يعرف هؤلاء الأشخاص ولا ألومهم، بأنه وحتى تاريخ اليوم لا يوجد تطبيق أو برنامج ترجمي إلى قادر على إنتاج نص ترجمي لائق يرقى ولو لـ 3% لنوعية ونتاج المترجم البشري ذي الخبرة والباع الطويل في هذا المجال، ولا سيما عند الترجمة من اللغة الإنكليزية إلى العربية.
وقد دفعني هذا اللغط الكبير إلى إجراء بحث ترجمي يحمل عنوان “الترجمة الآلية من الإنكليزية إلى العربية: دراسة نوعية”، يهدف في المقام الأول إلى تسليط الضوء على المدى الذي يمكن من خلاله أن نطلق على أي نتاج نصي ترجمي آلي بأنه مقبول، وذلك من خلال تقييم جودة النصوص المترجمة آلياً من الإنكليزية إلى العربية وفقاً لثلاثة معايير أساسية هي: المقروئية “Readability” (أي مدى سلاسة النص المترجم من حيث القراءة) والأمانة “Fidelity” (أي مدى دقة الترجمة ومطابقتها مع النص المصدر) والأسلوب “Style” (أي مدى مقبولية الأسلوب الكتابي والشكل العام للنص المترجم).
وقد ركزت الدراسة بمجملها على ثلاثة برامج آلية هي الأكثر شيوعاً واستخداماً بين أوساط الطلاب، هي “Google translate” و”Bing translator” و” Golden Al Wafi”، ووفقاً لنتائج الدراسة التي اعتمدت المنهج البحثي المعتمد للقيام بمثل هذه الدراسات، فقد تفوق “Golden Al Wafi” على كل من “Bing translator” و”Google translate” من حيث المقروئية “Readability”، حيث وصل المعدل الإجمالي الوسطي لـ”Golden Al Wafi” إلى 2.08 (42%) من أصل 5، التي تمثل التصنيف الأعلى المعتمد ضمن الدراسة، فيما لم يتجاوز كل من “Bing translator” و”Google translate” 1.63 (33%) و1.79 (39%) على التوالي.
كما تفوق “Golden Al Wafi” أيضاً على البرنامجيين المذكورين آنفاً من حيث الأمانة “Fidelity”؛ حيث سجل 2.13 (43%) من أصل 5 والتي تمثل التصنيف الأعلى المعتمد ضمن الدراسة، فيما لم يتجاوز كل من “Bing translator” و”Google translate” 1.83 (37%) و2.08 (42%) على التوالي.
وواصل “Golden Al Wafi” تفوقه أيضاً من حيث الأسلوب “Style”؛ حيث سجل 1.58 (32%) من أصل 4 والتي تمثل التصنيف الأعلى المعتمد لقياس جودة الأسلوب، فيما لم يتجاوز كل من “Bing translator” وGoogle translate”” 1.27 (25%) و1.41 (28%) على التوالي.
وقد خلصت الدراسة بالمجمل إلى أن البرامج الترجمية الثلاثة التي شملها البحث لا تمتلك القدرة والنجاعة التي تمكنها من إنتاج نص ترجمي مثالي ومتكامل من حيث سلاسة القراءة وأمانة النص المترجم تجاه النص المصدر والأسلوب والشكل الجمالي للنص، ناهيك عن حتمية التدخل البشري لمراجعة وتدقيق النص وضبطه لغوياً بما يتوافق مع قواعد وخصوصية اللغة المترجم إليها، كما أكدت الدراسة تفاقم الصعوبات والمشكلات المنوطة بالترجمة الآلية، ولا سيما عندما يتعلق الأمر بالترجمة من اللغة الإنكليزية إلى العربية، الأمر الذي يعود إلى طبيعة اللغة العربية الخاصة التي تميزها عن باقي اللغات، إلى جانب شح المكتبة العربية الإلكترونية المتوفرة على الشبكة العنكبوتية، آخذين بعين الاعتبار بأنّ برامج وتطبيقات الترجمة الآلية تعتمد على قاعدة البيانات والنماذج اللغوية المتوفرة على الويب.
وفي النهاية أنا لا أدعو هنا إلى مقاطعة استخدام برامج الترجمة الآلية وإقامة الحد عليها وعلى مستخدميها، بل أنصح روادها، ولا سيما شريحة الطلاب منهم إلى التحايل على هذه البرمجيات من خلال تقسيم الجمل إلى عبارات وألفاظ، والأفضل إلى كلمات منفصلة حتى يسهل على البرنامج التعامل مع المحتوى المراد ترجمته، والاعتماد في النهاية على أسلوبهم اللغوي وذائقتهم الترجمية في تشكيل النص ونحته وصوغه وضبطه بما يلبي طموحاتهم ويروي عطشهم المعرفي. وأحث الباحثين ليل نهار عن برمجيات ترجمية مثالية تحل محل المترجم البشري على التوقف عن هدر وقتهم، والاستعاضة عن ذلك بتزويد مخزونهم المعرفي وتطوير مهاراتهم ومعلوماتهم الترجمية التي ستمكنهم بكل تأكيد من تلبية متطلباتهم وترجمة المقالات والدراسات دون الحاجة حتى إلى مترجم بشري.