#العابثون: محاولة للفهم 2/3
د. ذوقان عبيدات
كتبت في مقالتي الأخيرة عن فئة قضائية تلقّت مِسطرة جاهزة، وتحاول تطبيقها على الآخرين تحت ذرائع #الحقيقة والثبات، و #الأخلاق والأطر الأخرى التي تحاول النظر إلى الحاضر، والمستقبل من الماضي. فهم يرون أن الماضي زوّدنا بالمِسطرة وبالحقيقة وبالأصالة وبالقيم، ولا مجال لتغيير هذه المستقرات. وقلت: هؤلاء ليسوا حزبًا ولا جماعة ولا عقيدة ولا مذهبًا أخلاقيّا معيّنًا ، بل هم أفراد من كل ما سبق، يتمتعون بما يسميه #الفلاسفة بوجدان جديّ لا يقبل مساومة ولا تنازلات، فكل شيءٍ لديهم حقيقة ثابتة!
وسأعرض اليوم فئة مناقضة يمكن تسميتها بـ “العابثين”، وهم أصحاب وجدان مغامر ولعوب!هذه الفئة أيضًا موجودة في كل الاتجاهات، ولا تقل ضررًا عن سابقتها! هي فئة لا تؤمن بالزمان ولا بالماضي ولا بالحاضر ولا بالمستقبل، فالزمان لديها هو لحظة الحاضر فقط، وهذه اللحظة إذا لم نغتنمها ستنزاح إلى الماضي، فالزمان سلسلة لحظات، وينطبق على هذه الفئة قول امرىء القيس: اليوم خمر! أو إذا هبّت رياحك فاغتنمها! إن ضرر هذه الفئة يتمثل فرديّا وإداريّا ومجتمعيّا!
فعلى المستوى الفردي، يبرز سلوك “دون جوان” الذي يستغل كل لحظة قبل زوالها، وبمقارنة بسيطة بين صاحب الوجدان الجدّي، وصاحب الوجدان المغامر العابث، إذ نجد أنّ الوجدان الجدّي يغلق الوجود على الماضي، بينما يهتم المغامر باللحظة الحاضرة، ومع أن كليهما يتلقى كالطفل، لكن الوجدان الجدّي يلتزم بالقواعد بدقة، في حين يميل المغامر إلى وضع قواعده بنفسه، فكل لحظة لها قاعدة مختلفة؛ ولذلك، يرفض استقرار الأمور التي يلتزم بها الجدّي وثباتها. وقد عبّر “أندره جيد” عن ذلك على لسان أحد أبطال روايته: “قلبي فندق مفتوح يدخل إليه كل عاشق”، أو على لسان ولّادة بنت المستكفي:
(أمكّن عاشقي من صحن خدي وأعطي قبلتي من يشتهيها)
هذا على المستوى الفردي، أما على المستوى المجتمعي والمهني، فإن وجود أصحاب الوجدان المغامر في مراكز قيادية هو كارثة حقيقية! فالمسؤول المغامر اللعوب لا يمتلك خططًا للمستقبل، بل يعمل بالقطعة دون أي قاعدة، وأقدم أمثلة تعكس هذا الوجدان المغامر:
1- نائب أو مدير لا يمتلك رؤيا ، يعمل بأسلوب: كل يوم بيومه، إطفاء الحرائق اليومية.
2- مدير يخربط الزمان، دون أولويات، يعمل اليوم ما كان عليه فعله قبل زمان أو بعد زمان، وفي لغتنا التربوية يضع الكتاب قبل المنهاج، أو يخرج النتائج قبل الامتحان، أو يضع الكتب، ثم يحدد المفاهيم والمهارات التي يجب أن تشتمل عليها، وباللغة الدارجة: حصانه خلف العربة!
3- المدلّل الذي يتنقل من عمل إلى آخر بحثًا عن المتعة الفردية والعبث: انتهازي، متلوّن، قلِق لا يعرف الراحة ولا الاطمئنان، كثير التنقل في الزواج، لا يقيم وزنًا لأيّ ثبات!
أكرّر: هاتان الفئتان ليستا حزبين، أو مجموعتين منظّمتين، والمشترك بينهما أنهما يخشيان الرقابة، ويبرَعان إذا شعرا بغيابها!
في المقالة الثالثة سأتحدث عن فئة ثالثة من أصحاب الوجدان الحقيقي